القاهرة 11 مارس 2020 الساعة 09:18 ص
كتب: حاتم عبد الهادي السيد
أي بريد لليل هذا الذى تخبرنا بوصوله الروائية اللبنانية هدى بركات فى روايتها "بريد الليل" ، وهل يختلف عن بريد النهار، حيث رسائل الليل تحمل الغازية: حبيب، سر غامض، رسالة مهمة لا يريد صاحبها تبليغها إلا فى الليل، إذ النهار له عينان – كما يقولون فى الأمثال لدينا، إذن ما حكاية بريد الليل هذا، وما تلك الرسائل الغامضة الليلية التى قد تأتى خفية، وهل ثم لا انتظار حتى يجيء النهار؟
إنه بريد الحب، بريد الزمان عبر المكان، بريد الذات التى ترى العالم، رسالة موجهة إلى الإنسانية الشائهة، إلى مجتمعاتنا التى تحب الليل وتعشقه، إذ فيه مواجد العشاق، واجتماعات الناس والسمر الممتد.
وفي الرواية، تبدأ الحديث بالرسائل: عزيزتي... عن القرية التى محاها السّد، عن الحب الموجود بين أهالي القرية، وعن ركوبه القطار، السهر، الليالي الحمراء مع العاشقة المشتهاة، باسم التمدين والحضارة، حيث القيم الليبرالية المنفتحة، وحيث الغرائز تفتح مساحة للعهر، دون فضيلة للقيم، أو للأديان، يقول: "ألست كائناً متخضراً يحافظ على غرائزه". الرواية: ص10.
هي الوحدة إذن، التحرر من قيود الأسرة، كراهية الماضي، اجتراره لأحزانه، للعاملة القاسية له من جانب الأم ، الغرفة التى استأجرها، وأحالها مرتعاً للحبية، و للعاهرات، وغير ذلك.
وتبدو مسيرة السرد لديها أكثر انفتاحاً، وتحرراً، فنجد الحديث عن الدورة الشهرية، بشكل صادم، وكأن ذلك من مظاهر التحرر والتحضر.
إن هدى بركات، الراوية، تسرد تفاصيل السيرة الذاتية، وهى فى القطار، حيث تنتقل الرسالة من الـ هو، إلى الـ هي، وتلك الثنائية قد تشتت القارئ الذى يعنيه التتابع الهارمونى التسلسلى للأحداث، لكنها أرادت ذلك، ولنا أن نوافقها حرية الكتابة، لكننا نشير إلى خلط قد يداهم القارئ ، دون تمهيد لذلك، وهذه أولى نقائص الرواية، وليست مزيّاتها – فيما أحسب – التلقى يجب أن يكون مسايراً لهارمونى السرد ن دون إزاحة فجائية، وتحول لوجهة السرد فهو يحكى، فتتحول الحكاية إليها، وقد كانت تحتاج إلى تمهيد أولى للقارئ ، حتى لو فى المقدمة، أو كان لها أن تحدث، عبر الالتفات، والإزاحة ذلك، وتمهد لقارئها الطريق المعبدة كى يتواصل مع مسيرة السرد الذى أمامه، لا فى مخيلتها، كما فعلت، فرأينا انتقال الحديث عن الابنة المشردة التى أرسلوها الى التعليم، ولم يسألوا عنها فقط، إلا حين ماتت الأم. اتصلوا ليخبروها، وهى قالت: البقية فى حياتكم، ومعنى ذلك أنها فقدت الأسرية تماماً، نزعة حب الأم، وأصبحت وحيدة مشردة ، أو متحضرة ، ربما !! . حتى ان جاء الحديث لدى السارد على لسانه فى الرسالة، إلا أن هناك ضبابية تشوب مسيرة السرد منذ البداية، وهذا الأمر والخلط فى الأسلوب دون تمهيدية يحدث إشكاليات لدى القارئ المتذوق، والناقد أيضاً.
إن مفردة القطار تستدعى لدينا غربة ما، هروباً، انسحاباً، ففعل البعاد موجع، حتى لو كان سفراً عادياً فما بالك بمن تسافر لا لتتعلم فحسب، بل لتهرب من عدم الاهتمام ومن قسوة الأم، فهى تهرب من المكان لتضيع فى العالم الآتي الغريب.
إنها رواية الروح، الجسد، عبر الرسائل التى تشرح أدق تفاصيل المعاشرة الجنسية، دون سرد فنى كذلك، ولكن يبدو أنه التحضر الذى لا نعرفه، والقيم الجديدة على مجتمعاتنا، فأنا لا أرفض الجنس – بالطبع – فى الرواية، ولكن هذا التابو، يجب أن تتم معالجته بفنية أكثر سموقاً، فهو ليس عيباً، ولكنه هنا سرد مبتذل، يخدش الحياء، والذوق العام، وان كان يخاطب الروح لكاتبة فى تصوير حالة الرجل الذى ينظر لصاحب الرسائل/ الحب الحكاء، والذى ظنه أحد المثليين الذين يتابعونه من نافذة الغرفة المواجهة أنه يراقبه من قبل موظف الجوازات الذى رفض إعطائه أوراق ثبوتية لتجديد الإقامة فى ذلك النفى الذى لجأ له هروباً ممن قهر المجتمعات والحكام بعد الثورة، فى الدول العربية، ومع ذلك فقد كان هناك الكثير من المشاهد الإيروتيكية الباذخة، والتى تتقبلها الذائقة كالحديث عن الغرام، وشهوة المضاجعة لديه، بينا كانت تبحث عن خدمة ما بعد البيع من جانبها.
إنها الغرفة/ العالم، عالمه، نزواته معها، قلقه، مغامراته النسائية المتكررة عبر الرسائل التى تحكى بصراحة، وانفتاح وتحررية السرد، الرسالة، الاسترجاع الداخلي، الاستبطان، تعرية للذات، للجسد، للسلوك غير السوى واللهفة لأفخاذ النساء وأثدائهن. فهو كما يعلن عاهر، ومفلس، يريد أن يقضى الحياة هكذا، باسم الحرية والتحضر. فهو فقد الهوية، منفى بدون أوراق إقامة، هائم فى العالم، تائه، شائه، مريض، يبحث عن نزوات افتراضية، أو حقيقية، لكنه فى الأصل لا يعرف ماذا يريد، له قيمه الخاصة، وفلسفته الذاتية الغريبة، يبرر سلوكياته غير المألوفة، ويحيلها الى الجينوم البشرى، جيناته الخاصة، ومعركته الكبرى مع الذات والعالم، يقول: "إن أغار عليك لا يعنى أنى مغرم بك، انها مسألة بين الذكور، تنافس على حجم الخصيتين، بمعزل عن موقع الأنثى الواقفة فى المساحة المشتركة لأى من الذكريين، هذه في جيناتى. ولا أريد فى معركتى مع العالم أجمع أن أحارب جيناتى أيضاً... لماذا أنا فى معركة مع العالم أجمع؟ لا أعرف أسألى العالم. ربما لإحساسي بأنى فى معركة ولا أملك أى سلاح. وكلما خرجت عدت مليئاً بالكمدات، لست مسالماً، لكنى لم أجد مصدراً يسلّمنى سلاحاً، والأدهى أنى ضعيف البنية، ولا أجرؤ على ضرب أحد. إذن، أنا ضعيف، وجبان، ويرتد غضبى علىّ مضاعفاً". (الرواية: ص22).
إنها مأزومية الذات تجاه نفسها والعالم ، تجاه الآخر الغريب ، الذى يفترض أنه يتربص به ، كالرجل الذىفى الشباك المقابل ، وهو ركون واستسلام للانهزامية ،لهذه الشخصية المنزوية ، الخائفة ، القلقة طوال الوقت ، والبائسة التى تتشبث بالأنثى كمعادل تعويضى عن النقص ، عن القهر النفسى للتربية ، عن النظر الى الكون والعالم من منظور المتربص الذى يريد تلبّسه ، أو نفيه ،ومحوه ، أو الدخول معه فى معركة ، حتى لو كانت مع المجهول / الأشباح / الهلاوس ، والقلق الذى ينتابه ، ويعيشه طوال الوقت / الهاجس المجهول الذى فى الأفق ينتظره فىكل مكان يذهب اليه ، لذا فهو لايريد أن بخرج من الحجرة الى الشارع ، كى لا يصاب بالكدمات / الهزائم الصغيرة ،التى تضاف الى هزائمه وانكساراته المتكررة .
ويجيء الحديث عن المنفى من خلال عرضها / عرضه ،عبر الرسائل، ومعاناته فى البحث عن عمل، فيجد مبتغاه لدى العسكرى الانقلابى، الذى فتح جريدة، ليعلم الناس أصول الديمقراطية ، واشترى قصراً فى المنفى، يجمع فيه الناس بالقوة، ليهنئهم بأنهم تركوا أوطانهم ، واختاروا المنفى، لأنهم – كما وصفهم – طلاّب حرية، قد تركوا أوطانهم لأنهم لم يحتملوا القمع والتخلف فى بلدانهم العربية.
حتى المهجر له شروط، فالمال يسد الأفواه، ويجدد الاقامات المنتهية. إنه يعلن دوماً: أنا المفلس، إنها المهانة، فالمال هو عصب الحياة هناك، تجديد الإقامة، دفع المصاريف الحياتية، لذا لم يكن لديه غير طريقين: "الكوكايين، أو الإسلاميين، ومع ميل بالطبع إلى الأول إلا أنهم عدّوه معارضاً، بعد أن ترجم مقالاً، من أجل مال زهيد، فلما ذهب للمعارضين عدّوه مشبوهاً، أو منتفعاً ، يجب مراقبته. وعبر الالتفات وإسهابات السرد عن المعارضة، نراه يغير وجهة السرد عنه إليها، فهو يبث لها شكاواه عبر الرسالة الطويلة/ الرواية، يبث لذاته أولاً، وتستهويه لعبة السرد ومغامرة المتعة في الحكي، وعبر الالتفات، والإزاحة نراه يغير الحديث عن وضعه المزرى، وينتقل اليها فى براعة: (عدا ذلك أنا متخلف وعدائي وعنيف، وفوق ذلك مدمن، وأول خيالاتى الجنسية تبدأ بأن أضعك بين ذراعي رجل آخر. تكونين عارية تاماً، تحته أو فوقه، ربما لأعالج غيرتى. يعجبنى أن أراك تشبهين النساء، ولك جسم معافى، ينضح رغبة ، متنقلاً بين أيد كثيرة ، وأفواه تجعل لحمك يضيء ويتفتح". (الرواية: 27-28).
إنه هوس الكوكايين ، أو الهروب السرى الى الذات ، السريرية المرضية ، النكوص ، التنفيس النفسى والروحى لرجل يهذى، يتذكر، يكتب، يتخيل حياة بكامل تفاصيلها على الورق، عن عاهرة، محبوبة متخيلة، كانت، وربما رحلت، لكنها على الأقل ليست معه، يكتب لا ليستجديها لتجىء ،فلربما لايريدها أيضاً ، فقط التسرية عن الذات بالكتابة، العلاج بالسرد والحكى، كنوع من التطهّر، الرجوع إلى اليقين، أو البرهان للذات الهائمة فى مجهولية العالم، وآلامه الزاعقة ، والمنافي الكثيرة، وغربته الممتدة أيضاً، مما حداه أن يقول بصراحة، تقريرية: "والله عبث، أكثر أيامى، تنقضى عبثاً فى عبث (الرواية : ص28).
إنه يخلط بين الوهم والواقع، يتخيل رجلاً يراقبه، ويتشكك بأنه مثلىّ، ثم يكتشف أنه رجل مخابرات أرسله الذى لم يجدد له الجنسية لشكّه فيه، يالخيالات والظنون، وأوهام السوق، والعربة، على حد قول الفلاسفة.
كما نلح ثنائية السرد السيميائى، السيمولوجى، لتلك الرسالة/ البوح، فمرة للرجل، وصوت آخر للأنثى التى يناجيها، ولعل اختلاط هذه الثنائية فى السرد يربك القارئ العادي، إلا أن المتتبع لهارمونى السرد، بعين ناقدة، سيلمح هذه الإنسيابية والتحول بين الصوتين، وكأنهما صوت واحد، أو أن هناك تلبسّا، ومخاتلة، أرادت الكاتبة بها العبث فى جسد السرد، مستخدمة الواقعية السحرية لسيميائية السرد المخاتل، الباذخ، الذى يخاطب الروح والجسد معاً، وربما بفعل الكوكايين، أرادت أن تنقلنا عبر غواية السرد إلى الـ هى، والـ هو، عبر مساجلات السرد المتداخلة، لتحكى حكايتين منفصلتين فى آن، وكأنها ترتكز إلى "ما بعد حداثية المعنى"، لتحيلنا إلى تشاركية للقارئ، عبر ثنائية السرد: صوت المرأة والرجل معاً، فى آن، نافية الزمكانية، أو الفروق السردية واللغوية والجمالية أيضاً. أو لعلها أرادت الإيهام بالسرد من جانب الراوى العليم/ البطل/ كاتب الرسالة، لتحيلنا إلى تلك الثنائية بفعل تعاطى الكوكايين الذى يخدّر العقل فيخلط بين حديثه كسارد، وبين مسرودية حكايتها، أو أنه التخييل عبر حواريات تخيّليّة أيضاً، لعالم افتراضى يعيشه، يتغيّاه، أو ربما أراده كذلك، وهذا يستدعينا أن نسأل: "عمن سرق المشار إليه فى النص ومسرودياته" - على حد قول رولان بارت- أيضاً!!
إنها تستدعى السرد فى صورة دوائر متتالية، وتبدو ثنائية الصوات دليلاً على حوارية مبتدّأة، تكمل سيرة السرد عبر تلك الحوارية التى يسردانها معاً، لنظن الرواية عبر المخاتلة، أنها رواية رسائل، أو أنها سيرة ذاتية فحسب، بل هى مسرودية لأحداث الذات عبر التخييل داخل غرفة السرد الكونية التى استأجرها فى بناية رخيصة ليصطاد العاهرات، فإذا به يصطاد ذاته من وراء تلك النافذة، أو أنها كمسرح كسرت الحائط الرابع فيه، ودخلت إلى الجوقة لترى الأشياء والمجتمع، فتهرب من جديد لنشاهدها / نشاهده فى الليل، من خلف قناع، من خلف زجاج النافذة، أو من خلف زجاج نظارته / ذاته التى تؤطر للوحدة، القلق، الغربة والمنفى، وتصنع عالماً للذات يعبر فيه السارد / الراوى، عبر مسيرة الحكى، وبفعل الكوكايين، أو الهروب النفسى، إلى عالم أكثر إشراقاً ومتعة. أفق يتغياه، ويتقصّده، ويستمرأ العيش داخله، رغم العذاب والقهر. فهو الوجع الشهي للعالم الذى يريد العبور إليه عبر منافى الذات المرعوبة التى تتشبث بالشجاعة، رغم انكساراتها الهائلة وهزائمها الافتراضية، كذلك والحقيقية أيضاً.
وبداية "ص:49" نجد رسالة إلى الأم الحبيبة، هل التى ماتت ودشنت صورتها فى ذاكرتها، وإزاحة حياتها السابقة، أم هو الذى يكتب إلى أمه التى كذلك كانت، فيما يبدو؟!
إنها مذكرات شاب لا أهل له، أو ربما قال ذلك، عندما استلم الوظيفة: "يعذب الناس ويطيع مرؤوسيه، هو عصا السلطة التى ثار عليها الشعب ففر من أمامهم قبل أن يزهقوا روحه لظلمه لهم – كما يروى لأمه معاناته فى المنفى وملاحقات رجال الشرطة، واتهاماتهم له بأنه يعمل لصالح مخابرات بلاده، وغير ذلك من التهم التى تلاحق الأجانب، من أصحاب الاقامات غير الشرعية ، أو اللاجئين السياسيين الهاربين من ظلم الأوطان ، الى سجون العالم الرهيبة كذلك .
انه يحكى لأمه ، مدى ما وصلت اليه حاله ، تعطيه امرأة سترة ليتدثر من البرد، وذلك الشحاذ الألبانى يفرد له الحشيش ويتبادلان الجلوس والأحاديث، إنها حياة غريبة قلقةٍ، مطارد من الشرطة لعدم وجود أوراق ثبوتية لديه، لذا لا غرو أن تستضيفه السيدة فى منزلها، يساعدها فى تنظيف المنزل، وكأنها الرسولة التى أرسلت إليه لتنتشله فى هذا المنفى.. في المهجر، والذى- كما يتذكر أنه شتم فيها الرئيس مرة، فاتهموه بأنه شيوعي، أو إسلامي، أو إخوانجى، يوم أن كان يعيش فى الوطن العربى هناك، لذا خرج الى المنفى كنوع من الهروب، الخوف، العجز عن مواجهة العالم والمجتمع.
لقد أسقط فى يده إذن، اغتصبته العجوز التى عمل عندها بقوة، لم يعرف غرام العجائز، من قبل، وقوتهن فى الفراش، هكذا تحدّرت به الدنيا، فكتب الرسائل، للتنفيس، للبوح. إنه أدب المذكرات، للاجئ، مشرّد فى العالم، بدون أوراق يبحث عن لا شىء، فقط يحب الحياة، ويتمنى العودة إلى الوطن الذى أبعد عنه قسراً ـ أو ابتعد عنه نتيجة ما حدث هناك.
إنه اذن هناك، في منافى العالم يتعذب، كما عذب الناس من قبل، تريده المرأة العجوز لليلة ، وليال للحب ممتدة، يقتلها، يندم، لكن لا فرق عنده، فكم عذّب وقتل، وهى أفعال اقتضتها طبيعة عمله – كما يبرر على طريقته الغريبة دوماً - أما أفعاله التى سيحاسبه الرب عليها – كما يقول – فهى الأجدر، بشعوره بالقلق، والخوف من الله، يقول: المتعة ليست خياراً، والانتشاء بالقوة والبأس، وإحكام السيطرة على البشر، ليست من الزوائد. أن ترى رجلاً كان ضابطاً أو أستاذاً جامعياً ـ أو قاضياً يقبل رجليك باكياً، ليس لزوم ما لا يلزم، فالدم يصعد ويفور فى القلب مثقلاً بالمخدرات الطبيعية، الشبيهة من دون شك، بتلك التى تبعث لذة المدمنين، فيعودون اليها مكبلي الأيدي. أن تقلّب الأدوار والمصائر بيديك الاثنتين، يعنى أنك تصبح القدر نفسه، ذلك الذى كنت تصلى له، كى يرأف بك... أنا لم أكن فى مثل هذا الوضع، مصلحتي كانت فى الحفاظ على تلك المرأة، ملجئي الوحيد، لا مصلحة لى فى قتلها. (الرواية: ص 70).
ثم نرى الكاتبة/ الراوية، تنتقل بخطاب رسائلها إلى أخيها الحبيب، لتحكى له عن ظلم أمها وظلمه هو كذلك لها، بعد إجبارها على الزواج، ثم تطليقها، بعد أن أنجبت وطلبات الأم المستمرة للمال لتربية ابنتها، وقد عملت خادمة في البيوت، ثم مومساً، شرموطة وعاهرة، كما تعلن ذلك.
إنها اعترافات المرأة التى قست عليها أمها، فقتلتها، كما قتل السارد المرأة العجوز التى آوته، وتقول- مبررة مثله، على طريقة حبيبها، كذلك - هي إرادة القدر الإلهية، وذلك الرجل. أى أنها حكايات ممتدة ترويها فى شكل رسائل، لتحكي عن عالمها، عالمنا، مذكرات امرأة قست عليها الأيام ورجل عاند الدنيا فعاندته الأيام، أى أن كليهما فى الحاليين متشابهان فى الظلم والمرار والوحدة والفقد، فى التشرد والعيش على الحافة فى شوارع العالم والطرقات، يتوزعهم الخوف والمرض، ويتدثران بالحب، بالجسد، ليشعرا بدفء الحياة، حتى ابنتها التى زوجتها أمها رغماً عنها لعربى من أجل المال وعاشت مثلها تخدم، وكأن سلسلة الهزائم وتكرار التجارب تمتد إلى الأبناء كذلك، نتيجة لجشع الأم، وحبها للمال مع عدم اعتبار لأمومة، أو عاطفة، فقد باعتها هى من قبل، وتركتها فى عراء العالم وحيدة مريضة منهكة، يتجاذبها الذئاب الذين يجيدون نهش الأجساد الهزيلة الضائعة، الضالة، والفقيرة كذلك.
ثم تتوالى الرسائل إلى الأب، وكأنه هنا يتذكر لا يرسل رسائل، فحسب – ذلك الابن الذى كان يتحاشى الكلام معه خوفاً ورهبة ، إلا إنه هنا جاهر بالكلام، دون خوف، أو رادع، لأنه هو الذى ترك لهذه المساحة الخالية، تركها ولم يسأل عنه، وكان يتمنى – كما يذكر - أن يتدفأ فى روح والده، ويحكى له، كالشباب عما يؤرقه، لكن هذا لم يحدث قط، فقد طرده الوالد من المنزل بسبب سيجارة حشيش، فكان أن عاش المرار، هو يعاتبه، يكتب إليه، يستدعيه، يتذكره ، يريد أن يتطهر، ويحنّ إلى حضنه الذى فقده منذ أن غادر البيت إلى الأبد.
إنها رسائل الحزن، تنحو إلى الحنان، تريد الدفء، التسامح، العفو، الشعور بالندم، الانتقام، بث الشكوى والأحزان مما لاقاه/ لاقته/ معاً، من أهوال الحياة وشظفها وعنتها، ومن الغربة والترحال عبر شوارع العالم، ونواصى الحياة القلقة المفزعة.
إنها رواية الذات التى تعرى الجسد والروح، لتطلعنا إلى صورتين متشابهتين مختلفتين لحياة ولد وفتاة، حواء وآدم ومسيرتهما الكونية عبر الحياة، وما فعل بهما الشيطان، ونزوعات النفس ، والأهوال، إلا أن التوق للحب، للتطهر، للصراخ ، بأنهما لم يقصدا إيذاء أحد، وأن ما فعلوه كان خطايا غير مقصودة، أو أخطاء وضعتها الأقدار فى طريقهما، فسارا فى طريق الاختبار المرير عبر الكون والعالم والحياة.
وقد قسمت الرواية الى أقسام: مقدمة تثل العتبة النصية للولوج الى عالم الرواية عبر الفتاة والفتى، القسم الأول: خلف النافذة ، والذى يمثل ثنائيات الصوت السردي، الذكوري، الأنثوى. القسم الثاني: فى المطار: والذى يمدّد مسرودية الأحداث وتشابكها عبر الرسائل الى: الأب والأخ، الأم، ثم نراها تنهى روايتها بالخاتمة: "موت البوسطجي" ، وكأنها تريد أن توهمنا بأنها رسائل حقيقية حملها البوسطجي، عبر بريد الليل إلى من يطلبها – فيما بعد – من أصحابها، بعد أن شردتهم الحرب، وهدمت منازلهم، وهوياتهم، وكأنها رسائل مؤجلة، لم تصل بعد إلى أصحابها، فهى رسائل السرد، البوح الذاتى/ ذاتها / ذاته / المجهول / الراوى الغريب التائه مع محبوبته التى غابت عنه كذلك، كما غاب والده/ والدتها/ أخوها/ الوطن، الحياة التى تنتظرهما فى الخارج لترد على رسائلهما المفجعة، وربما السعيدة أحياناً !!
إنها تروى حياتنا، واقعنا ،عبر روايتها، تعكس كل ما يعترينا، فلا القاتل قاتلاً، ولا المومس عاهرة، بل هى اسقاطات تحيلنا الكاتبة اليها لنرى الواقع عبر الرسائل، السيرة الذاتية، البوح النفسى، وكانت الاستفاقة من هذا السرد على صوت ساعى البريد، وداعش، عبر المكان، داعش- التى اقحمتها فى نهاية الأحداث، وهو اقحام غير مبرر، ولكنها إشارية إلى الآني/ الزمنية، الواقع الآن، أى أنها تريد أن تخبرنا بأنها رسائل الوقت الذى نحياه، الآن - إنها الرسائل التى تتقاطع مع عالمنا، والتى تستعين بنا، للنظر بشفقة الى هؤلاء المهجّريين، المنفيّين فى الغربة، المنكسرين عبر ذواتهم المأزومة، والغرباء داخل أوطانهم، وذواتهم، يرفلون فى الظلم، ويتجرعون كأس الهزائم المتكررة، والطغيان، والحرمان، فى عالم طغت فيه المادة والخوف الذى جسّدته جماعة "داعش"، كرمزية إشارية، مثيولوجية، للظلم والوحشية عبر عالمنا الذى افتقد إلى الأمن وساد فيه القتل والضياع والتشرد، عبر ردهات الواقع المرير والحياة التى تأخذنا إلى دروب لم نفكر يوماً أن نسلكها، لكن حرص ساعي البريد على تلك الخطابات جعلته يفهرسها، فربما سئل عليها أحدهم، يوماً ما، بعد أن غيبت الحرب العناوين، وتهدمت البيوت، وشاهت المعالم، فلم نعد ندرى عن الأماكن والأوطان شيئاً ، فهى الغربة فى المكان، غربة الذات عبر الغرفة، عبر الوطن، والكون والعالم والحياة.
إن رواية: بريد الليل، لهدى بركات تعكس الذات عبر منافى العالم، وتعكس سيرة العالم داخل الذات. تحكى من الغرفة أحزان المجتمع، وتتأمل عبر التطواف مسيرة الذات المأزومة عبر هذا العالم الممتد، وهى رواية ذاتية، سيرة، بوح، إفضاء روحي، جمالي، لغوى للذات الكونية، الميتافيزيقية عبر الواقع السيميائى/ التخييلى/ الحقيقى الحالم، والمتشابك والممتد أيضاً.