القاهرة 03 مارس 2020 الساعة 03:15 م
وائل سعيد
كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن أهمية الفلسفة ودورها التنويري، ونجاعتها في القضاء على كل أشكال التطرف والفكر المتزمت، على اعتبار أن الفلسفة كتعبير عقلي ومنطقي، هي القادرة على مواجهة كل أشكال العنف والتطرف، لكونها حبلى بالقيم الإنسانية التي تهدف إلى تحقيق نوع من التناغم بين البشر، كما أنها حسب قول الكثير من المهتمين بأمر الفلسفة في عصرنا الحالي: "أداة مهمة في علاج سعار الإرهاب الذي ابتليت به المنطقة العربية"، حيث لن يتحقق إنقاذ الأجيال الصاعدة إلا عبر إحياء الفلسفة، وإعادة الاعتبار لها، وتجديد مكانتها في المنظومة التعليمية العربيةالتي عملت لسنوات على محاربة التفكير الحر والفلسفة، لأن هناك من البلدان العربية من أقبرت تدريس الفلسفة في الجامعات لسنوات، وحاربت الفكر الفلسفي واعتبرته مؤججا لكل الثورات والمطالب بالتغيير في البلدان العربية، وهو ما يشكل خطرا على أنظمة الحكم العربية.
الاندهاش هو باب التفلسف، والسؤال أسّه الرئيس، وهو مقدمة لفعل التفلسف؛ لهذا يمكن اعتبار الفلسفة خطابا تحرّريا للمجتمعات العربية التي هيمن وساد فيها الخطاب الديني الوثوقي لسنوات، إن لم نقل، لقرون عديدة؛ فالفلسفة، كما يرى الباحث العراقي الدكتور علي عبود المحمداوي، يمكن أن تتحول إلى أداة ناجعة لمن يسعى إلى تغيير واقعه والتخلص من براثن التخلف والفكر المتزمت. لهذا، فهي "أداة نقد ومواجهة ومقاومة بامتياز". ولكي تتحقق هذه الغاية، يجب على الفلسفة أن تخرج من الأحادية والمذهبية أحيانا، وتتحول إلى خطاب انفتاح للرد على الفكر الشمولي والاستبدادي، مثلما فعلت الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت مع النازية الألمانية.
ولكي تكون الفلسفة فاعلة وناجعة في مجتمعاتنا العربية، يجب عليها أن تتخلص من العوامل التي سعت إلى تقزيم دورها، وهما عاملان أساسيان: البعد النخبوي في الخطاب الفلسفي، والذي تكرس مع مدرسة أفلاطون، على عكس سابقه سقراط الذي عمل على تنزيل الفلسفة إلى الشارع، ثم التكفير الديني الذي لحق الفلاسفة في العالم العربي الإسلامي، والذي جعلها تتراجع في مقابل تغوّل الخطاب الديني وسيطرته على المجتمعات العربية الإسلامية. هذا ناهيك عن ضرورة الاستفادة من تجربة التنوير الغربي، والدور الفاعل للعديد من المثقفين والمفكرين الإصلاحيين الغربيين، الذين جعلوا من الفلسفة، المحرك الأبرز لتنوير العقل الغربي، حيث بفضلهم تحرر الغرب من سلطة الكنيسة الكهنوتية، وتخلوا بالتالي عنكل الحروب الدينية.
إن إعادة تأهيل الفلسفة في الواقع العربي، كما يرى الدكتور محمد المصباحي من المغرب، سواء في النظام التعليمي أو في الحياة العامّة، كفيلة بتقديم حلول لأهم المعضلات التي يواجهها العالم العربي اليوم، وفي مقدمتها معضلة الإرهاب والتّطرف الديني، مادام إحياء الفلسفة هو إحياء للعقل، ومادام الإسلام يعدّ العقل "شهادة على عناية الله بالإنسان وتكريمه"، معتبرا أن إحياء الفلسفة هو ما سيعيد الوعي بوزن العالم العربي وقيمته، ويجعل الأجيال الآتية تكافح من أجل استعادة مكانته بين الأمم، وهذا ما انتبه إليه، ولو بشكل متأخر، أصحاب القرار في العالم العربي، وصاروا ينادونبضرورة عودة الفلسفة إلى قلب التعليم، بعدما احترقوا بلظى التطرف الديني الإسلامي.
فإذا كانت الفلسفة تعبيرا عقلياوفكريا كونيا، يهدف إلى الإعلاء من كرامة الإنسان بوصفه إنساناً أولا وقبل كل شيء، فكيف عملت على مواجهة الإرهاب؟ وما هي القيم الإنسانية السامية التي كانت الفلسفة تدافع عنها ولا زالت؟ وكيف يمكن للفلسفة اليوم، أن تصبح أداةً لتحرير الواقع مما ينتج من خطابات تدعو إلى الكراهية والعنف والتطرف، وكل أشكال التزمّت والإرهاب؟ وهل يمكن للفلسفة اليوم أن تكون أداة فاعلة للمساهمة في علاج سعار الإرهاب الذي ابتليت به المنطقة العربية؟ وكيف يمكن حماية الفلسفة نفسها من الإقصاء والتهميش والمحاربة مرة أخرى في بلداننا العربية؟ وهل تنزيل الفلسفة إلى الناس، وتوسيع نطاق تأثيرهاوالعمل على استقطاب الرأي العامّ، كفيل بحمايتها؟
ونظرا لراهنية هذا الموضوع وأهميته، وضرورة محاولة إيجاد أجوبة لكل هذه الأسئلة الشائكة، ومعرفة الكيفية التي قارب بهاالفكر الفلسفي مشكلة الإرهاب، خصصت مجلة "ذوات" الثقافية العربية الإلكترونية الشهرية، الصادرة عن مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث" ملف عددها (61)، لموضوع "أيّ دور للفلسفة أمام زحف الإرهاب؟!"، وهو الملف الذي أعده الباحث المغربي في مجال الفلسفة، إسماعيل الموساوي، وقدم له بمقال يحمل عنوان: "الفلسفة وسؤال الإرهاب أو "الإرهاب مُفَلْسَفاً""، وساهم فيه مجموعة من الباحثين العرب، وهم: الدكتورة والباحثة السورية يسرى وجيه السعيد، بمقال بعنوان: "دور الفلسفة العقلانية المعاصرة في مواجهة الإرهاب"، والباحث المغربي حمادي أنوار بمقال: "الفلسفة وسؤال الديني والسياسي"، والباحث التونسي الدكتور زهير الخويلدي، بمقال بعنوان: "دور الفلسفة في الحد من اللاتسامح الديني"، ثم الباحث والدكتور غيضان علي السيد من مصر بمقال بعنوان: "الفلسفة وقيمة التسامح (أو في ضرورة الانتقال من المطلق إلى النسبي)". أما حوار الملف، فهو مع الدكتور والباحث العراقي علي عبود المحمداوي، وهو أحد أبرز المفكرين العرب الذين خصصوا حيزاً مهمّاً من أبحاثهم الفلسفية والفكرية لمقاربة "مشكلة الإرهاب" فلسفياً دراسة ًوتحليلاً، من خلال عمله البارز في هذا السياق "الفلسفة والإرهاب: أو في سلم السؤال وعنف الجواب "سرد في الجريمة المنظمة ضد العقل""؛ وهو يرى في حواره مع مجلة "ذوات" في هذا الملف، أن الفلسفة هي الكفيلة بتفكك البؤر التكفيرية، والتصورات الأصولية العُنفِية، وتخليص المجتمعات العربية من هذه المشاكل ذات الطابع التطرفي التي تعاني منها اليوم؛ مشيرا إلى أنه باستطاعتها أن تفعل ذلك من خلال حضورها الناقد، وأسئلتها المزمنة لادعاءات الصحة والحقيقة التي يطلقها الإرهابيون في أيّ مكان، من خلال تحليل مآلات الأفكار وفحصها فلسفياً بغية تجاوزها، وتخليص المجتمع من حضورها العنيف.
وإضافة إلى الملف، يتضمن العدد (61) من مجلة "ذوات" أبوابا أخرى، منها باب "رأي ذوات"، ويضم ثلاثة مقالات: "العنف..أين ومتى يبدأ، وهل سينتهي؟"للباحثة والمرشدة النفسية السورية روضة عبد الخالق، و"المجتمع الافتراضي وانهيار حاجز الواقع"للكاتب والصحفي المصري أحمد صوان، و"الصورة - الثرثرة، وخيانة المعنى" للباحث السوري معتز سلام؛ ويشتمل باب "ثقافة وفنون" على مقالين: الأولللشاعر والناقد الفني المغربي الدكتور بوجمعة العوفيبعنوان: "البدايات المؤسِّسة للنقد الفني بالمغرب"، والثاني للشاعر والكاتب المصري شريف الشافعي، بعنوان: ""خيمة 56"..قضايا النّساء والحرّيات وأوجاع اللاجئين في فيلم سوري".
ويقدم باب "حوار ذوات"، لقاء معالكاتبوالمؤرخ التونسي لطفي عيسى، المتخصص في تاريخ التصوّف وتاريخ الذهنيات المقارن بالمجال المغاربي، والحاصل على جائزة معرض تونس الدولي للكتاب في دورة 2019 عن عمله "أخبار التونسيين: مراجعات في سرديات الانتماء والأصول"، وهو الكتاب الذي توج به مساراً طويلاً بدأه بفهم التاريخ الثقافي لبلاده من موقع الزوايا ومدونة مناقب الأولياء، وصولاً إلى مرحلة ما بعد 2011 وجدالاتها، والتي صعد فيها الخطاب القائم على مرجعيات الهوية، وهو ما يضع أمام المؤرخ إشكاليات جديدة، يأتي عيسى كأحد أبرز من يتصدّون لها، بأدوات عابرة للتخصّصات؛ الحوار من إنجاز الإعلامية التونسية بثينة عبد العزيز غريبي.فيما يقدم "بورتريه ذوات" لهذا العدد، صورة عنالدكتور محمد مفتاح، رائد النقد الأدبي المعاصر بالمغرب، وأحد أهم الأساتذة، وأبرز الباحثين الأكاديميين الذين جدّدوا الدرس النقدي في الجامعة المغربية، سواء من حيث طرائق التدريس، أو من حيث المناهج المتّبعة في قراءة الإبداع العربي، فتحولت الجامعة معه، إلى مضمار للتفكير والتّأمّل، والحفر في الثقافة العربية بإواليات نقدية غربية، وهو ما جعله يتوج بالعديد من الجوائز العربية القيمة كجائزة الملك فيصل العالمية في اللغة والآداب عام 2016، وجائزة الشيخ زايدللكتاب عام 2011، عن كتابه "مفاهيم موسعة لنظرية شعرية (اللغة-الموسيقى-الحركة)"، وجائزة سلطان بن علي العويس عام 2004 عن مجمل إنتاجه النقدي؛ البورتريه من إنجاز الباحث والشاعر المغربي صالح لبريني.
وفي باب "سؤال ذوات"، يستقرئ الإعلامي والكاتب المصري وائل سعيد، آراء مجموعة من الباحثين والكتاب العرب حول سؤال: الطريق إلى الفلسفة...هل يكون حلاّ لمواجهة الإرهاب والتطرف؟وفي باب "تربية وتعليم" يتناول الكاتب والباحثالمصريخلف أحمد محمود أبوزيد موضوع "المؤسّسات التربوية وثقافة الأمن الفكري"، فيمايقدمالباحث المغربي عبد الرحيم رجراحي، قراءةفيكتاب"فن العيش الحكيم" لأرثورشوبنهاور، وذلك في باب كتب، والذي يتضمن أيضاً تقديماً لبعض الإصدارات الجديدة لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، إضافة إلى لغة الأرقام، التي تقدم أحدثتقرير صادر عن منصة هوتسويت(Hootsuite)الكندية بخصوص العالم الرقمي لعام 2019، والذي يكشف عن أرقام مثيرة للاهتمام، من أبرزها أن استهلاك الأنترنيت لدى العرب يفوق نظيره لدى الغرب.