القاهرة 25 فبراير 2020 الساعة 09:45 ص
د.محمد السيد إسماعيل
على الرغم من الهجرة شبه الجماعية إلى فن الرواية تظل القصة القصيرة أكثر تحديا لقدرات المبدع وأكثر تواصلا مع القارىء واستجابة للأحداث الراهنة وذلك لأنها تجمع بين رهافة الشعر وكثافته وسردية الرواية وتنوع أبنيتها وطرائق مقاربتها للواقع بأحداثه وشخصياته وأماكنه ومجموعة " روبابيكيا " لغادة فايق تجمع بين هذه الصفات من خلال استخدام ضميرين أساسيين هما ضمير المتكلم الذى يغلب على فن الشعر بوصفه ضميرا تعبيريا وضمير الغائب الذى هو ضمير سردى يتخذ فيه السارد وضعية الراوى الخارجى المحيط علما بشخصيات القصة هذا التراوح بين الضميرين انعكس بدوره على الأسلةب الذى جمع بين الوصف الظاهرى لهيئة الشخصيات والوصف الداخلى الذى يأخذ صيغة المنولوج والحق أن الشخصية السردية النسائية هى الأكثر حضورا فى هذه المجموعة وهى شخصيات تنتمى إلى الطبقة الفقيرة والطبقة المتوسطة لكنها تمتلك إرادة التغيير وتحدى معوقات الواقع ، يظهر ذلك فى قصة " اختيار" التى تتخذ من القرية مكانا لها والتى تبدأ مباشرة فى الحدث " تنهض فورا من فرشتها فوق الفرن إثر سماعها صياح أول ديك معجب بصوته " والدخول المباشر فى الحدث سمة سردية واضحة فى المجموعة كلها فهى لا تتوقف كثيرا أمام وصف " المكان " سواء كان القرية أو المدينة التى تقع أغلب أحداث القصص داخلها وهناك مستويات عديدة من المعوقات أو القيود التى تكبل طموحات الشخصية ورغباتها يأتى البعد الاجتماعى فى مقدمتها فصاحبة بطلة القصة السابقة تضطر للعمل بعد عجز زوجها الأجير الذى لايملك سوى قوة عمله وهكذا يصبح عجز الزوج وإرادة التحدى عند الزوجة مشكلين لما يمكن أن نسميه ب" الثنائية التكاملية " الثنائية التى يتكامل طرفاها فى تجاوز ضرورات الحياة وتهمنى الإشارة إلى أن القرية لم تظهر فحسب من خلال ملامح المكان بل ظهرت بوصفها بيئة حاضنة لشخصياتها حيث بدت القرية كلها كما لو كانت أسرة واحدة كبيرة .إرادة التغيير او الرغبة فى التحرر نجدها أيضا فى الكثير من القصص التى تدور داخل المدينة فنهى محمود فى قصة " تغيير" تعيش حياة رتيبة بطيئة فاقدة للمعنى والحيوية لكنها فجأة تقابل صديقة الجامعة سعاد عبد الحميد فترى كل واحدة منهما نفسها فى مرآة الأخرى وتبدوان على طرفى نقيض سعاد متدفقة حيوية تتأهب للسفر بينما نهى قابعة فى أسر المكان والوظيفة والأعباء اليومية .لقاء الآخر هو اكتشاف للذات وتفعيل لقدراتها هكذا تخرج نهى ورقة بيضاء من حقيبتها وتكتب استقالة تحررها من العمل الذى يقيد حركتها وأحلامها ." السفر" ليس مجرد انتقال من مكان إلى آخربل انتقال من حال لحال وبهذا المعنى يمكن أن ننظر إلى " العلم " على أنه نوع من السفر من الجهل إلى المعرفة وهذا ماتدركه شخصية " قصة وردة " التى تقرر أن يكون لبنتيها حياة مختلفة عن حياتها عن طريق التعليم بعد أن ظلت هى وزوجها تحت وطأة " الجهل والفقر" الأمر الذى يجعلنا نقول إن فكرة الصراع بين القيد والحرية هى الفكرة المركزية فى المجموعة سواء اتخذ هذا القيد شكل القمع الذكورى أو شكل التقاليد الاجتماعية العامة وسواء تم التعبير عنه من خلال تفاصيل مباشرة أو بصورة تجريدية كما فى " فيضان نهر " التى تصنع توازيا بين حالة النهر الذى يريد الفيضان وتمنعه شطأنه وحالة الأنثى التى ترغب فى التحرر ويمنعها قمع الزوج فيصبح البحر ملاذها فى نهاية الأمر حيث تتسرب من بين يدى الزوج ة" تلتحم ببراح النهر وتجرى فى سريانه " هذا التوحد مع الطبيعة يمكن أن نعده نزوعا رومانسيا لكنه يتطور ليصبح نزوعا صوفيا يرى الحياة لهاثا لاجدوى منه ويرى الموت الحقيقة الوحيدة المنسية ولا شك أن هذه الرؤية هى التى عصمت بطل قصة " كيس برتقال " من الوقوع فى الفساد الذى يحيط به فى كل مكان كما جعل بطل قصة " فقد " واثقا من عطاء الله ومؤمنا بالحل القدرى لمشكلته وهو ماحدث بالفعل .
هناك أكثر من تقنية فنية فى هذه المجموعة منها تكرار بعض الدوال اللغوية بصورة لافتة مثل مفردة " الرائحة " التى تستدعى بعض الأماكن أو الشخصيات وأحيانا تدل على فكرة الانتهاء والتلاشى حين تشبه مرور العمر سريعا بدخان سيجارة " يتلاشى ويذوى فى الهواء تاركا وراءه مجرد رائحة " ومفردة " السلم " بوصفه مكان حركة صعودا وهبوطا وهو ما يتجاوب مع حياة الشخصيات نفسها فى تغلبها على مشكلاتها أو هزيمتها أمامها ، وهناك أيضا التشبيهات التفسيرية التى تعتمد عليها الكاتبة كثيرا مثل " كل الأحداث سواء ..بطيئة الإيقاع كصوت نقط المياه الحبيسة فى صنبور مغلق وهى ترتطم بالحوض فى رتابة وملل " وكذلك الاعتماد على الرمز كما فى قصة " الآخر" الذى لاندرى إن كان ملاك الموت أم ذاتا أخرى للسارد يعكس عليها رغباته فى التطهر والتغيير .هذه نظرات فى مجموعة غادة فايق تدل على قدراتها الفنية الواضحة