القاهرة 11 فبراير 2020 الساعة 09:52 ص
حاورته: شيماء عبد الناصر
يقول فاروق يوسف، عن الفنان رفقي الزاز: رفقي الرزاز وَسْط مشاهده الخفية كمَن يرتجل جملته مرتين. مرة في وضعها الصحيح ومرة أخرى مقلوبة. يرسم رفقي الرزاز أشكاله، ليكشف عن إمكانية الغنى البصري الذي ينطوي عليه عالمنا. هناك ما لا يزال طي الكتمان أو لا يزال مقيما في عالم الغيب. ضربة فرشاة واحدة في إمكانها أن تطلق صرخة تنبعث من مكان خفي. يستفز الرزاز أشكاله لتكون أخرى، نقيضتها أو على الأقل قناعها الذي يمكن أن يوحي وجوده بما لا يُرى. ولكن الأشكال كلها كانت قد محيت بتأثير من حيوية الخطوط التي صار عليها أن تمتثل لأوامر الرسام وفي الوقت نفسه تقود يده إلى أماكن مجهولة. لم يعد الرسم وسيلة للبحث عن الأشكال أو تأثيث سطح اللوحة الفارغ بها. هناك قوة في الخط يمكن أن تخلي طريقها في اتجاه ما يجد فيه الرسام متعة خلوية وبريئة. يعيدنا الرزاز إلى زمن الخط لذاته. بعد أن استقر الخط فاصلة وهمية بين سطحين ها هو يضع على سطح اللوحة فرضية كونه واقعة، يمكن النظر إليها من جهة ما تحققه من تأثير بصري. غير أن ما لا ينبغي الثقة به هو أن كل شيء قد استقر في لحظة ارتجال. فرسام مولع بالصور الذهنية من نوع رفقي الرزاز لا يمكنه الاطمئنان إلى حريته من خلال عزلة الخطوط. لذلك فإنه سيسعى إلى تشكيلها بطريقة توحي كما لو أنها ذاهبة إلى اقامة علاقات شكلية. وهو ما لن يحدث. لا تزال هناك مشهدية صارمة. مشاهد يمكن النظر من خلالها إلى الواقع بطريقة شفافة قابلة للتأويل، يشعر المرء من خلالها بأنه يرى الشيء ويحلمه في الوقت نفسه. لذلك فإن المشاهد لا يمكن إحالتها إلى أصل واقعي بعينه. ما رسمه الرزاز هذه المرة كان قد رسمه في وقت سابق. ولأنه اليوم ينظر بطريقة مختلفة فإن كل شيء قد تغير كما لو أنه لم يُرسم من قبل. وهو ما يعني أن التحول جرى بطريقة تلقائية.
كل ما يفعله الرزاز أنه يتبع يده التي تتخيل. ما رآه و ما لم يره. ما تخيله وما لمسه. ما حلم به وما يتذكره. ما يفكر فيه وما يتأمله. كل ذلك يقيم في يده. فالرسام بالنسبة لرفقي هو يده الخبيرة بالألم.
رسوم الرزاز مليئة بالحكايات: حكايات هي عبارة عن فقرات متسلسلة من سيرته الشخصية. وهي سيرة مضادة. ذلك لأنها تمس الواقع من غير أن تخدشه. فهي سيرة روحية بالرغم من مشهديتها التي تذكر بالمسارح. لذلك يمكن القول إن الرزاز الذي حلم رسومه رسم من أجل أن يتماهى مع شخصيته الحقيقية راوي حكايات ساحرة، يمكننا عن طريق قليل من التأمل أن نرى أجزاء منها وهي تتحرك تحت السطح مثلما تفعل الصيحة تحت اللغة. يتشبه رفقي الرزاز حين يرسم بمًن يحفر بحثا عن أثر الخط الذي يرسمه. فهو يظن أن رسومه التي يجدها إنما هي وليدة تلاقيات قلقة لخطوط، صار يتبع أثرها كما لو أنه ينحي الغبار عنها.
افتتح الفنان رفقي الرزاز معرضه في جاليري مشربية في 11 يناير 2020 بعنوان " رفقي الرزاز 2020، واستمر لمدة أسبوعين، كان لي هذا الحوار معه للتعرف على ماهية هذا المعرض وكواليسه.
كلمة لمتذوقي فنك وقارئي ومشاهدي معرضك؟
طبعا أحيي أي متلق وأي متذوق للفنون وأرحب بأي أحد يتفضل ويشاهد التجارب التي تقدم. ولكن هناك وسيط مشترك بين الفنان وبين أي متلقي، هذا الوسيط ليس في مفرداته الفنان أو لغة الفن، لكنه وسيط عقلي ما بين المتلقي والتجربة التي تقدم، هذا الوسيط كي يتواجد في مساحة صحية، مطلوب من المتلقي أن يكون لديه الحد الأدنى من المتابعة للفن والمسرح والسينما والأدب عمومًا، القضية أن المتلقي أحيانًا نعذره كفنانين فهو لم يتشكل وجدانه من الصغر بسبب أزمات كثيرة يطول الحديث عنها، لكن العلاقة بيني وبين المتلقي علاقة إنسانية جدًا، أحاول أنا شخصيًا أن أضع مفاتيح في العمل الفني، في التجربة، مفاتيح للعقل، تكون في عمق العناصر التي أختارها شخصيًا، والتي يجب على الفنان أن يختارها كي يقدمها للمتلقي، هذه العناصر تتشعب وتنقسم إلى أشياء كثيرة جدًا، منها عناصر حضارية، عناصر شخصية، عناصر تخص البيئة، أخرى تخص التاريخ، مستقبلية، وذلك على حسب شخصية الفنان نفسه.
ما هي الفكرة الأساسية للمعرض؟
هنا في المعرض الفكرة الأساسية هي اللغة المصرية القديمة، وخصوصًا اللغة الهيراطيقية، أي خط الرقعة أو الخط الذي كان يسجل الحياة اليومية، حيث اللغة الرسمية عند المصري القديم هي اللغة الهيروغليفية، أما لغة الحياة اليومية أو اللغة الدارجة هي اللغة الهيراطيقية، فكانت تكتب بشكل سريع وموجودة على حجر رشيد، والذي به ثلاث فقرات، فقرة هيروغليفية، وفقرة هيراطيقية، وفقرة لاتينية، وترجم شامبليون اللاتينية لأنها لغته. اخترت عناصر اللغة الهيراطيقية التي تخص اللغة المصرية القديمة. فحروف هذه اللغة أثارتني، هي حروف جميلة جدًا، قمت بعمل اسكتشات لهذه الحروف، مزجتها أيضًا مع بعضها البعض، ومع عناصر أخرى من القبطي والاسلامي، أردت أن أقدم هذه الحروف وهذه التشكيلة من العناصر للعالم، الذي يقرأ هذه اللغة جيدًا، ولكن داخل مصر، فإن الظروف مختلفة، بالنسبة للمتلقي أو رجل الشارع ليس له علاقة بالآرت إطلاقًا، فهو غير موجود أصلا في الشارع. من هنا حاولت صياغة الحروف المصرية القديمة بشكل يتوافق مع لغة الفن التشكيلي المعاصر في العالم.
رأيك في قضية عالمية الفن التشكيلي وموقع مصر من العالم في الفن التشكيلي؟
نحن كتشكيليين مصريين نتحدث لغة تشكيلية عالمية بطلاقة. ولكن ماذا تقول؟ لابد أن تقول جملة مفيدة، لها دلالة ولها معنى، ولها حاجة تخصك، تخص تاريخك، تخص بلدك، تخص وطنك، حضارتك، شخصيتك، ليس شخصيتك الفنية كفنان ولكن شخصيتك القومية كوطن، هذا هو المبحث الرئيسي، هناك فنانون أحرار، جادون جدًا في تجاربهم وفي مشارعهم، شخصية الفنان هي شخصية الوطن، فإن لم تكن تحافظ على وطنك وتحافظ على عاداتك وتقاليدك واحترامك لوطنك، سوف تحترم ذاتك وسوف يحترمك العالم كله.
أعمالك قريبة نوعا ما من التجريد، هل قارئ اللوحات العادي لو سألك عن أي مدرسة تتبعها، هل تعمل في التجريد، أو تتبع المدرسة التجريدية، ماذا ستقول؟
لابد من الفصل بين أن هناك المدرسة التعبيرية والمدرسة التجريدية، وهناك تجريدية تعبيرية، وتعبيرية تجريدية، هم أربع مناطق، حينما يجتمع مفهوم التجريد ومفهوم التعبير فإن المسألة تكون في أمس الحاجة للدلالة، أي أن العناصر التي يختارها الفنان تدل على أشياء هي تحتضنها أو أشياء في عمقها، أي أن العنصر الموجود في العمل يدل على ذاته، وذاته متصلة بذات الفنان، وذات الفنان وذات العمل متصلة بذات الوطن وأرضك وتاريخك وحضارتك، العمل مرتبط بالثقافة، وبالذائقة العامة، ولكن في تجربتي الخاصة التي أقدمها، فإني أحاول توصيل رسالة للعالم، فقكما قلت إننا نتحدث لغة تشكيلية يتحدثها العالم كله، لغة الفن المعاصر، ولكن واجبنا كفنانين أن نقول بمفردات لغة الفن التشكيلي جملة وطنية، تخص مصر وتاريخها وشخصيتها، فلا يقوم الفنان بالاستقلال بذاته والعيش في برجه العاجي القيام بعمل الالترامودرن ابستراكتب والتي تكون عبارة عن تجربة من تجارب الفنان، لكن لا يعمل بطريقة ذاتية طوال حياته، بل يعود لتناول قضايا وطنية، لدي أعمال انفعلت بها نتيجة ثورة 25 يناير، هناك أحداث كثيرة يمر بها الوطن أتأثر بها وأرسمها ولكن لا أعرضها، لكني أدون ذلك للتاريخ، مثل حادث القطار في محطة مصر، قمت بعمل جدارية ضخمة جدًا تسجل الحدث لكن في نفس الوقت هناك قيم جمالية وحضارية أؤكد عليها. الفنان يتفاعل مع كل أحداث الوطن، أنا اقترب من المتلقي من خلال الشرح والإجابة على الأسئلة، أسئلة تخص اللون أو عناصر العمل الفني، أو كيفية عمل اللوحة أجيبه على كل تلك الأسئلة.
حدثني عن خاماتك، وطريقة تفاعلك مع الخامات، وأكثر خامة تحبها وعلاقتك بالخامات المختلفة؟
أنا فنان زيتي، معظم لوحاتي زيتية، ارتباطي بالزيت عملية نفسية، خبراتي كلها في العمل الزيتي، مثلا تحضير العمل سواء على سطح خشب أو قماش، هناك مواد تعتمد طريقة تحضيرها على الماء، وأخرى تعتمد غلى الزيت، وأقوم بالتحضير من خلال اسكتش معين مرتبط بمجموعة لوحات وتجربة أعيش فيها وقت التحضير ومضمون فكري أو جمالي أو فلسفة ما، تنتج مجموعة أعمال، هناك الكثير من التفاصيل داخل العملية التحضيرية للعمل، التحضير الخطي (الاسكتشات) التحضير الكيميائي (المواد الخام) والأهم من كل ذلك التحضير الذهني. هذه المجموعة من المعرض أخذت عاما وبعض عام. أهم شيء التجربة، الحالة التي يكون الفنان فيها.
ماذا تقول عن التكوين في لوحاتك؟
هذا سؤال جميل، التكوين عنصر من عناصر العمل الفني، نحن نطلق عليه، البناء الفني، أو الأعمدة الأساسية التي تحمل العمل الفني، تقوم بعمل الاتزان بين العناصر. اتزان الملامس، أي منطقة سوفت أي منطقة هارد، أيها سخن أو بارد، أيها محايد، وعلاقة الألوان بالموضوع. كل لوحة لها بناء فني، يتغير أثناء العمل على اللوحات، بالطبع تغيير للأحسن، الموضوع مليء بالتفاصيل، لكن التكوين في حد ذاته، هو الهيكل العظمي للوحة. مثل بناء عمارة فهي تبدأ بالأساسات والقواعد، يبدأ الأمر بالتحضير الخطي كفكرة، أو اسكتش، بالطبع ليس كل الاسكتشات تنفذ، يتم اختيار مساحة تتناسب مع الاسكتش، كل خط في الاسكتشات يصب في خدمة الموضوع والمضمون الخاص بالتجربة والحالة التي أكون فيها، بقية عناصر اللوحة من ألوان واتزانات وملامس وعلاقات كلها تتعاون في خدمة التجربة والمضمون الذي أريد توصيله.
رأيك في الحركة التشكيلية المصرية في الوقت الحالي؟
أنا فنان مصري وأعيش داخل مصر وأتابع كل حاجة، لكن -المنتج الإبداعي- أنا أغضب جدًا من النقاد الأجانب، أقرأ ما يكتب عن الحركة التشكيلية في مصر، أجد النقاد في الخارج يقولون أنه هناك هذيان أي ضعف في مستوى المنتج الإبداعي المصري كله، مسرح، سينما، غناء، موسيقى، لكني أرى أنه ليس كل المنتج ضعيف، هناك حالات جادة، المفروض أن تنتبه الدولة لمثل هذه الظواهر، تنتبه إلى ما يُسمع في الشارع وما يُرى؛ لأن هذا ما يشكل وجدان المواطن. لدينا مشاريع كثيرة جدًا، تعدل قوام المنتج الإبداعي، مناهج كليات الفنون محتاجة إعادة صياغة، الأنشطة الموجودة في كل المراحل التعليمية تكاد تكون انعدمت في الثلاثين سنة الماضية، نأمل في المرحلة القادمة نعيد صياغة المناهج، ونعيد اهتماماتنا بالفن؛ لأن هذا هو ما يقدم حضارة ويرتقي بالإنسان في كل مناحي الحياة.
هناك أربع لوحات في المعرض يشكلون مجموعة متقاربة، هل قصدت ذلك؟
هذه الرباعية بالتحديد هي أول بداية التجربة وهناك دراسة تقوم على هذه الرباعية بالتحديد لأنها توازي ما ابدعه أبو العلاء المعرض في لزوم اللزوميات وتوازي منهج اتخذه بعض الفنانين الاساتذة الرواد في بداية المودرن آرت، اللوحة ممكن أن تشاهد مقلوبة واللوحتان بجوار بعضهما يشكلان لوحة والثلاث يشكلون لوحة أيضًا والأربعة إذا قلبوا يمكن مشاهدتهم كلوحة واحدة واضحة المعالم من كل الاتجاهات، تفسير ذلك هو اللغة الهيرطيقية وحروفها التي خضعت لتعديلات وإعادة بناء في نفس الحرف، وتضافر مع مثيله ومع قبطي ومع إسلامي، مع لغة عربية، فمثلا جزء مخن حرف ثلث مع حرف قبطي، اللغة هنا تآزر اللغة التشكيلية.