القاهرة 04 فبراير 2020 الساعة 10:01 ص
كتب: حاتم عبد الهادي السيد
يحيلنا ديوان: "سمينار الجن والكلب والحمار" للشاعر/ محمد ناجى حبيشة، إلى الفكاهة والأدب الساخر – منذ اللحظة الأولى- وهو ذلك النوع الذي افتقدناه كثيراً فى أدبنا المصري، خاصة بعد رحيل كبار فن الزجل: صلاح جاهين، بيرم التونسي، سيد حجاب، عبد الله أحمد عبد الله (ميكى ماوس)، محمد رخا، وغيرهم.
وعلى الرغم من ندرة وجمالية هذا الفن البديع الذي يعكس ثقافة الشعب المصري وخفة دمه، وسخريته من الواقع والأحداث، بل وانتقاد الأوضاع السياسية والاجتماعية التي تمور بها البلاد فى فترة ما من عمر التاريخ المصري، إلا أن هذا اللون وجدناه – بقلّة – فى كل الحقب والعقود المصرية التي تعانى من الظلم تارة، ومن الكبت والرهبوت تارة، ومن التذمر على الأوضاع المجتمعية التي يعيشها المواطن الفقير، فكان هذا الإبداع أكبر معبّر عن ثقافة الشعب المصري ، ورفضه لكل القيود، فأطلق عليه اسم "أدب الشعب المقاوم"، إلى جانب شعر العامية الذي ينطق بلهجة المصريين ، ويصل إلى العامة والخاصة من أقرب طريق.
إذن نحن أمام خفة الدم المصرية والفكاهة والطرفة، التي أشتهر بها المصريون طوال الحقب المتعاقبة ، وهذا الديوان يضاف إلى ذلك السفر المصري الضخم فى هذا المجال.
ولعل ما يميز الديوان استخدم الشاعر للحكمة ممزوجة بالفكاهة والنقد والسخرية، محاولاً تفصيح العامية تارة، واستخدام الألفاظ العامية صريحة ، أو الخروج إلى الفصحى، ليدمج كل ذلك فى الديوان الذي يمثّل منظومة شاهقة من الجمال وخفة الدم.
وفى قصيدته: "تباريح" نراه ينتقد واقع الشعراء، ونظرة المجتمع لهم من خلال مواقف يصورها بهدوء، وبلهجة بسيطة ،سلسة، تخشّ إلى الروح مباشرة، يقول:
لمّا اللسان الفصيح ينشد يقول تسابيح
ينزل معاه الشفا بلسم على التباريح
ربك عملنا كده بنحبكم بصحيح
نمسح على ظهركم كل الاّلم بيسيح
قالوا لى فيه عندنا حفلة ومكلّفة معموله للمجاريح
أنا قلت كيف يا جدع ندخل بدون تصاريح
قالوا لى مسموح لكم... دخول بدون لحليح
ديوك صحيح فى الأدب طول النهار بتصيح
لكن هموم الوطن عملت لكم تباريح.
وفى قصيدته " حلموس" نراه يوظف علاقة الانس بالجن من خلال مونودراما، حوارية ، بينه وبين جنىّ دخل جسد شاعر، فرأينا الشاعر يستخدم الجنىّ سخرة ، فيصوره بأنه أقوى من الجنى، الذي أعلن استسلامه، وندمه، لدخوله جسم الشاعر، الذي قلب المعادلة حتى عند الجن، وهو اسقاط لقوة الشاعر التي هي أقوى من الرصاص، بل أقوى من كل القوى الخارقة، والجن والعفاريت، وغير ذلك، يقول :
جه في يوم شاعر وقال لي إرقينى
حاسس إن عينى عايز تطلع مِنّى برّه
قُلت إيه يعنى إمّا تطلع
ناس كتير راح تستريّح م المضرّه
قال عشان خاطر أبويا
أخذت ودنه بين إيديا
ورحت أقرأ
سمعت جنّي م اللى جوّه صرخ
وقال طلعّنى برّه
تعبت منّه
شِدّنى واكفينى شرّه
هدّيت العفريت وقلت
إحكى لى يا لله
ليه دخلت دماغ أديبنا
قال لى هتصدقنى غلطة
إنت عارف اللىّ زيىّ جِنّى صايع
كنت قاطر بنت حلوة
جنّى تانى خطفها منى
قلت أقعد ألِمّ نفسى
وأشد شيشه
لقيته نايم
وشه حلو وفيه طفولة
رحت داخل جوَّ جسمه
قلت هتصيبنى المسّره
من ساعتها ليلتى حمرة
شغل ليل ونهار بنجرى
أصله بيشغّلنى سُخره.
وفى قصيدته: "سهرة" نراه ينتقد الكيف والذين يدخنون البانجو، ويصف أحوالهم المشينة، التي تفقدهم العقل، فهو يجسّد حالة المدمنين للحشيش والمخدرات، ويدعو الشباب لترك تلك العادات الضارة المفسدة للعقل والمال والصحة، يقول:
سقتونى إيه يخرب بيتكم
روّحت تايه مش شايف
فتحت باب شقة جارى
وقعدت أحَسْس وأنا خايف
دخلتدوغرى على المطبخ
لقيت كنافة وقطايف
قعدت اّكل مدّهول
كأنى باكل "خوخ ناشف".
إنه الشعر الاجتماعي إذن، ذلك الشعر الذي يهذّب الذات، ويعلى من قيمتها ومكانتها الاجتماعية، وهو الشعر الذي ينتضم عقد القيم ،ويدعو إلى السلوك القويم، وينتقد كل خروج عن الأعراف والقوانين والأديان.
والديوان مليء بالمواقف الطريفة والمدهشة، فنرى الميت يموت مرة ثانية، ويستيقظ عند سماعه الشعر، كما نجد مواقف كثيرة يتعرض لها المواطن كسيارة تخبط كلباً، ويريد المجتمع ديةّ له، وتعويضاً، بما يشير لقضايا الرفق بالحيوان، وهو الأمر الذي يشى بفرادة إنسانية مع خفة ظل، وسخرية تهدف إلى تغيير السلوكيات وتعزيز الإيجابيات فى المجتمع.
وشاعرنا نراه ينتقد كثرة الزجل والزجالين، الذين دخلوا مجال الزجل دون فهم مبانيه، ومراميه ومغازيه، وأهدافه، حتى رأينا جبل الحلال فى سيناء – وهو مكان وجود الشاعر – قد امتلأ بطنه بالذين أصبحوا كغثاء السيل، كما ينتقد دخول غير العارفين فيه بفن الأوزان الخليلية فنراه يصفهم وصفاً جديداً إذ هم كالبعران المناطحة هناك، لذا قرر أن يعود إلى الشعر المقفى، كى لا يصاب بالحول القولي، يقول:
جبل الحلال عندنا
معمول له رابطة زجل
والزجّالين عندنا
باركين في بطن الجبل
شرط الدخول عندنا
الوِدْن من غير طبل
تكره عَروض الخليل
تِدْرس علوم الجدل
تنسى حروف الهجاء
تقطع خيوط الأمل
وتهيج هياج البعير
تنطح في وسط الزعل
أنا قلت أرجع مقفى
مإلى ومال الحول.
وفى النهاية: لن تستطيع هذه الدراسة المختصرة – بالطبع – أن توفى الديوان حقه، لكنها إشارات دالة لطبيعة هذا الديوان الذي يعيد لنا فن الأدب الساخر، الشعر الحلمنتيشى، الزجل الواعد ، النقد الاجتماعي ذا اللهجة اللطيفة التي لا تجرح شعوراً، بل تدخل إلى قضايانا الذاتية والمجتمعية، وتكشف لنا احوال الشعوب وعلاقة المثقف بالسلطة، كما تشير إلى العديد من الأمراض الاجتماعية والنفسية التي تصيب المجتمعات، ويتمنى الشاعر أن يكشف العطب بغرض الإصلاح، فهو شعر يعلى من القيم، ويعزز الإيجابيات، وينتقد لينبه من بيدهم الأمر ليقوموا بالإصلاح والتغيير، لبناء المجتمع القويم للدول التي تبتنى ثقافتها وحضارتها على وعى الشعوب وتقدمها واستنارتها، رغم الضباب الذي يغزوه النور، ورغم الهوان الذي تعقبه القوة ، ورغم الهزيمة التي تعقبها الثورات والانتصارات.
إننا نثمّن ديوان الشاعر، وننبّه إلى ابتعاث هذا الفن بعد غيابه، أو تغييبه من قبل السلطة، لكن المجتمعات الديمقراطية تتيح للأقلام الحرة أن تنطلق ليتحرر الانسان، وترتقى الدول والممالك ، ولولا النقد ما كانت مجتمعات الفضيلة، ويظل الشاعر يوجه ويشير، لعل أذناً تسمع، أو عيناً ترى.