القاهرة 28 يناير 2020 الساعة 09:56 م
د ـ هويدا صالح
سؤال الهوية لا يتم طرحه إلا حين تكون الأمم في حالة من الانكسار والتراجع، و لا ينشغل الناس غالبا بسؤال هويتهم إلا حين يشعرون بالضعف والتهديد على ضياع هذه الهوية، والذي يراجع التاريخ يتكشف له أن الأمم و الشعوب تزداد انشغالا بتاريخها وماضيها حين يكون حاضرها مأزوما ومستقبلها غير واضح، فسؤال الهوية حين يطرح يشير إلى تراجع إسهام الأمة في الحضارة الإنسانية. هل الهوية العربية ترتبط بثقافات متعددة أم ثقافة واحدة؟ هل نحن كعرب لنا هوية واحدة ؟ أم يمكن الاعتراف بفكرة الطبقات المتعدة للهوية ؟ هل السعودي مثلا هويته تحدها الثقافة العربية فقط ؟ وكذلك المصري والسوري وغيرها من هويات عربية ؟
في الحقيقة الهوية الواحدة تعتبر هوية مسطحة لا عمق فيها، فالسعودي هويته عربية إسلامية أسيوية شرق أوسطية، وكذلك المصري هويته عربية إسلامية مصرية قديمة بحر متوسطية وشرق أوسطية وهكذا. فاحتضان أمة من الأمم لثقافات متعددة وهويات متراكمة الطبقات يزيدها عمقا وزخما وحضورا إنسانيا، فالهوية طبقات مما يكشف عن قوتها، فالهوية المفردة هوية مسطحة لا قيمة لها.
تطرح مسألة الهوية أسئلة جوهرية، فهناك من ينظر إليها نظرة راديكالية ويريد أن يعود بالمجتمع إلى الخلف، ويحكمه الوعي الماضوي ويدعو إلى انبعاث الأصوليات الدينية والعرقية التي تتبنى تصورات نكوصية للهوية، تقوم على العقيدة أو العرق، وتنظر إليها بوصفها حقيقة مطلقة، ومتعالية، وأنها هي ما يشكل ماهية الإنسان. وهناك من جهة ثانية من يرى كي ينهض مجتمعنا عليه تلمس ثقافة الحداثة، التي تنطلق من أن سؤال الهوية أصبح متجاوزا، بالتوازي مع إفلاس الميتافيزيا، وسقوط المعنى، وأن الهوية لا تعدو أن تكون مجموعة من الإسقاطات الوهمية التي يضفيها الفرد على نفسه. وهو ما يعطي الأولوية في انتماء الفرد للعام الإنساني على الخاص المحلي، ويؤدي إلى تنسيب مسألة الانتماء العرقي أو الديني. رغم التعارض الكبير الذي يبدو لأول وهلة، بين هذين الموقفين، إن خطاب الهوية، حتى في تعبيراته الأكثر محافظة، يتم تصريفه باسم مقولة الحقوق الثقافية، التي تنهل من مرجعيات الحداثة، ومن الثقافة الديمقراطية، والمواثيق الدولية المعاصرة.إن وجود "هوية" بمعناها الثابت والمتعالي لم يمنع الثقافة الديمقراطية من أن تفرد الكثير من أدبياتها للحقوق الثقافية. وللرد على هذين التيارين المتصارعين على كل المستويات، سواء على مستوى الثقافة أو المجتمع يجب أن نؤمن بتعددية الهوية الثقافية للشعوب، فكون المجتمع يسعى للحداثة والتنوير لا ينفي أن يتمسك بخلفية دينية، فلا تعارض بين الأمر لأن :" التعدد أمرٌ منطقي وبديهي، لأنه يعكس حقائق الجغرافيا والتاريخ. ولكن المأساة تبدأ عندما يوضع ترتيب لهذه الأبعاد يخالف حقائق الجغرافيا والتاريخ. فرغم إن كاتبَ هذه السطورِ مصريٌّ- عربي وعالمي الثقافة- مسلم ، إلاَّ أنه إذا سُئل من هو وكان المطلوب أن يجيب بكلمةٍ واحدةٍ ، فسيقول إنه مصريٌّ. والمنطقي أن يفعل القبطي نفس الشيء. أما إذا أعطيت إجابة بكلمةٍ واحدةٍ وقلت "إنني مسلم" أو "إنني عربي" أو "إنني أفريقي" أو أنني من شرق البحر الأبيض المتوسط" فإنني سأكون قد أَعطيتُ إجابة، هي ليست في الحقيقة، بإجابةٍ وإنما كلام عام غير محدد ولا ينطبق على تعريف "التعريف" الذي قالت به العربُ منذ قرون" ( ). إن القضية لا يمكن أن تحسم في أحد الاتجاهين بمعزل عن الآخر؛ فالهوية تخضع لصيرورة زمنية تجعلها تتجاوز نفسها باستمرار دون أن تفقد بعض عناصرها الأساسية، فهي تزاوج في كل لحظة بين الاستمرارية والقطيعة، وهو ما يجعلنا نطرح السؤال: ما هي العناصر التي تحافظ عليها الذات في صيرورتها، والتي تبقيها هي هي رغم التغير الذي يطرأ في الزمان؟ وهل يفيد أمة من الأمم الانفتاح على الثقافات الأخرى أم ذلك يعد تهديدا مباشرا للهوية الثقافية لمجتمع ما ؟