القاهرة 28 يناير 2020 الساعة 12:43 م
قراءة: أشرف قاسم
يبني الشاعر محمد خيري الإمام ديوانه الذي بين أيدينا على لحظات منفلتة من عقال الزمن، يستعيدها بدفئها وحميميتها، هو نوع من استحضار الزمن الضائع، والحنين إلى الطفولة، فهو لا يكف عن طرح أسئلته عن جدوى الاغتراب:
على شاطئ النيل أغسل روحي
أنقِّبُ عن بهجة الصبح فِيَّ
ثم يقول:
لتبقى وجوهُ الطفولةِ والذكريات! ص 43
وتشكَّلَ في الأفقِ وجهُ أبي
لا يراه سواي! ص 54
تلك اللوعة وهذا الأسى هما المحوران اللذان تتمحور حولهما نصوص هذا الديوان، فنرى الغربة الموحشة بعنفوانها ، وتسلطها – مادية ومعنوية - والبحث عن الألفة والأُنس في أوجُهِ الذكريات البعيدة، حيث الأهل والأصدقاء واللحظات المفتقدة كالأعياد والمناسبات التي صارت بلا طعم بعيدًا عن الأحبة:
يا عيدُ كيف تجيء يا عيدُ
وعلى جبيني الحزنُ معقودُ
بيني وبين أحبتي أفقٌ
تغشاه بِيدٌ دونَها بِيدُ.. ص 39
هذا الحضور الطاغي لمفردة الغربة بجميع دوالها وإيحاءاتها المتعددة - منذ عنوان الديوان حتى آخر كلمة فيه – هو الذي يشكل فضاءات عالم محمد خيري الإمام، ومن خلاله يقدم صورة لوعيه بهذا الواقع الضاغط والذي تتولد من خلاله لدى الشاعر ثنائية "الغربة والذكريات "، فكلما هجمت عليه الغربة بأنيابها ومخالبها عاد بذاكرته نابشًا في مخازن الذكريات ملتمسًا السلوى والسكينة:
قديمًا
كنتُ أفيق على صوت الراديو
يختلط بماءٍ ودقيق
ويدان مشمرتان تصبان البركة في الطستِ
يكون الخبز إذا أُوقدت النارُ
ومازال الخبز يكون
وأنا لا أصحو إلا بعد الظهر.. ص 26
من خلال لغته القريبة تلك يقدم الشاعر رؤيته للعالم بمفرداته وتفاصيله الدقيقة دون تكلف، ولكن تلك اللغة على بساطتها إلا أنها تموج بالحركة والحياة:
ابقَ في المنتصفْ
تستطيع الحياةَ كما أنتَ
أيقظْ بداخلكَ الحُبَّ
والحلمَ
والطفلَ
والذكرياتِ
وكَسِّرْ قيودَ الحياةِ
ومُرَّ على الشوكِ
لا ترتجفْ.. ص 90
ومن هنا نستطيع أن نقول باطمئنان إن تلك الغربة العنكبوتية التي يحياها الشاعر على الرغم من وطأتها على روحه فإنها لم تستطع أن تقتل فيه عشقه للحياة والإنسان، بل جعلته أكثر تشبثًا بتلك الحياة:
مازال خلفي كائن أقوى يقينًا
يحتسي طعمَ الحياةِ
وليس يشبعه فُتاتُ المائدةْ.. ص 20
وما بين غربة الحاضر وأُلفة الماضي الذي يستدعيه الشاعر كلما أنهكته غربته تتوزع صورُه الشعرية التي تجسد كلتا الحالتين / الغربة والأُلفة / بصور مختلفة من التداعي والاستطراد وأحيانًا الثرثرة:
هل اليومُ يكفي
ليخرج من سجنه القلبُ؟
حتى يمارسَ ما كان يبهجه
في اجتماعِ الصحابِ
التقاءِ الأحبةِ
في لمَّةِ الأهلِ
في لفتةٍ من عيون الصبيِّ الشقي
وفي بسمةٍ مِن حياءِ البناتْ.. ص 45
تحضر المرأة في ديوان محمد خيري الإمام على استحياءٍ في صورة الأم والحبيبة الغائبة والمرأة الحلم دون أن تترك أثرها الكبير في بنية النص لدى الشاعر في الأغلب ، ولكن هذا الحضور الحييّ يقابله حضور بالإيحاء لدى المتلقي وكأن الشاعر عمد إلى ترك هذا الباب مواربًا ليفتح للمتلقي باب التأويل كما يرى:
أعرف رائحة
تنتشر الطيبة منها والصدقُ وحسنُ العشرةِ، والأُلفةُ
تغمرني بالدفء
ولا تعتدل موازينُ البيتِ بغير شذاها.. ص 25
كما تمتاز لغة الشاعر بتلك الروح الصوفية التي تغلف مفرداتها في الأغلب من نصوص الديوان، دون الانزلاق في متاهات التهويمات والتعمية:
مرتويًا من ماء النيلِ أجيء
فأرجع خطواتٍ للخلفِ
لكي يُصدِرَ من جاءوا ظمأى مِن أقصى الأرضِ
يرومون من الله المددا
أسعى ما بين الجبلين
أهرولُ عند الضوءِ الأخضرِ
هل ينظر ربُّ المروةِ
لطهارةِ قلبٍ بجواري
فيزيلُ عن الروحِ الكمَدا؟ ص71،72
وفي النهاية لابد أن أشير إلى أن محمد خيري الإمام شاعر مبدع مازال لديه الكثير شريطة أن يخلص للشعر وأن يبحث عن صوته الخاص.