القاهرة 21 يناير 2020 الساعة 11:03 ص
كتب: د. محمد السيد إسماعيل
لم تنشغل أمة من الأمم بجدلية الأصالة والمعاصرة بقدر ما انشغلت بها الأمة العربية وفى القلب منها مصر التى كانت الأكثر حضورا فى طرح هذه العلاقة منذ تعرضها للحملة الفرنسية التى اكتشفت – من خلالها – واقع التخلف الذى كانت تعيش فيه تحت الحكم التركى ومظاهر التقدم التى حققتها الحضارة الغربية فلم تكن الحملة الفرنسية مجرد غزو عسكرى، بل جاءت بعلمائها الذين وصفوا مصر واكتشفوا رموز حجر رشيد وأدخلوا مصر فى طور حضارى مختلف استمر بعد خروجهم ووصول محمد على إلى سدة الحكم واهتمامه – بالدرجة الأولى – بتكوين قوى لتحقيق أحلامه فى تكوين إمبراطورية كبيرة تمتد شرقا إلى الشام وجنوبا إلى منابع النيل حتى أصبح على مشارف "الأستانة " نفسها.
ثلاثة اتجاهات فكرية:
ومع الوقت تكونت ثلاثة اتجاهات فكرية فى قضية الأصالة والمعاصرة الأول يرى ضرورة العودة إلى التراث والحفاظ على الهوية الحضارية فلن نتقدم إلا بما تقدم به أسلافنا؛ بينما رأي الاتجاه الثاني أن نأخذ بأسس الحضارة الحديثة وأن نتبع أسباب تقدم الآخرين أما الاتجاه الثالث فقد حاول التوفيق بين الأمرين: أن نتمسك بجذورنا وهويتنا وأصالتنا وأن نأخذ – فى الوقت نفسه – بأسباب التقدم الحديث؛ وفي هذا السياق يمكن أن نفهم توجهات جيل الكتاب والأدباء والمثقفين الذين اكتمل تكوينهم في العشرينيات والثلاثينيات؛ وهو ما يطلق عليه الأستاذ ناجي نجيب "جيل الحنين الحضاري" و "النزاع العالمي"؛ ويضم أسماء: عيسى وشحاته عبيد، ومحمود تيمور وأحمد خيري سعيد، ويحيى حقي.
"مصر للمصريين"
لم تكن هزيمة العرابيين ووقوع مصر تحت الاحتلال الانجليزي نهاية المطاف، فقد ظلت المقاومة مستمرة وإن اتخذت طابعًا سلميا في البداية؛ وكان لها آثارها في استعادة الشعور بقيمة الذات من خلال شعارات مصطفي كامل "لو لم أكن مصريًا لوددت أن أكون مصريًا" و "لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس" وهو ما تجسد - عمليًا – فى ثورة 1919 التي كانت تجسيدًالطموحات الاستقلال والنهوض وأن تكون "مصر للمصريين" حقًا فتتابعت المطالبة برفع الاحتكار الأجنبي لميادين التجارة والمال والمناصب الحكومية وتكوين اقتصاد وطني مستقل ("يحيي حقي وجيل الحنين الحضاري" ناجي نجيب). وقد ترتب علي ذلك إنشاء بنك مصر عام 1920 وتكوين فرقة رمسيس المسرحية – لاحظ دلالة الاسم علي الهوية المصرية – وتوظيف نجيب محفوظ للترات الفرعوني فى أولى مراحله الروائية. ودعوة محمد حسين هيكل وغيره إلى أدب يجسد الروح المصرية.
الاستقلال الثقافي:
كان أحمد خيري سعيد، أكثر أعضاء المدرية الحديثة تأكيدًا علي ضرورة تحقيق فكرة الاستقلال الثقافي ويراها مقدمة للاستقلال السياسي ولا تقل أهمية عنه حين يقول فى جريدة "الفجر" (26 يونية 1925): "والفكرة التي أنشأنا من أجلها هذه الجريدة فكرة معني الكلمة، فكرة تعبر عن مرحلة واسعة من التقدم الذهني.. إننا ننادي بالاستقلال الفكرى ونعتقد أن الأوان قد آن لتحقيق هذا الاستقلال".
وهذا رأي يميل إلى تأكيد فكرة الأصالة غير أن يحيى حقي يطرح تصورًا متميزًا يتجاوز به فكرة الأصالة والمعاصرة حين يحكم فكرة الإبداع الذى هو ضد التقليد سواء كان للأصيل الترثي أو للوافد الغربي، ففي كتابه "فجر القصة المصرية " يقول "في أحضان هذه الثورة – يقصد ثورة 19 – نشأت موسيقى سيد درويش ونشأ أدب المدرسة الحديثة...وكلاهما منبعث من حاجة ملحة لإيجاد فن شعبي صادق الإحساس إلي أدب واقعي متحرر من التقليد أو اقتباس الأخيلة من الغير" وبتأمل الجملة الأخيرة التي تدعو إلى التحرر من التقليد أو اقتباس الأخيلة من الغير "نجد أنها لا تعني سوى الإبداع الذي هو صدى الذات" بعيدًا عن تقليد "الغير" أيًا كان؛ وهو ما يذكرني بقول توفيق الحكيم إنه يتعامل مع التراثي بنفس نظرته إلى الوافد الغربي؛ لأن الأول جديد عليه أيضًا.
الخاص والعام:
عندما نقول إن يحيى حقي أحد أعضاء المدرسة القصصية الحديثة فإن هذا لا يعني اتفاقهم في كل شيء؛ فقد تميز حقي برؤية فريدة للعديد من القضايا علي نحو ما اتضح سابقًا في ثنائية الأصالة والمعاصرة – وهذا ما نجده أيضًا في ما يسمى بالخاص والعام؛ أو الأدب المحلي والعالمي؛ فهو يرى الأول الطريق الوحيد للوصول إلى الثاني، وأن كليهما يفيضي إلى الآخر "فلا قيام لصدق العام إلا بقيام صدق الخاص محدد تمام التحديد " ويضرب لذلك بعدة أمثلة منها صائد السمك عند همنجواى الذي غير نجده "صورة صادقة محددة لصياد في جنوب أمريكا"... وقد لمس جلال أمين هذا المزج الإبداعي عند حقي الذي جمع بين "الحب العميق للتراث الشعبي المصري وتذوق عال وتقدير عميق لإنجازات الحضارة الغربية".
"قنديل أم هاشم" وأيدلوجية المصالحة:
هذا التركيب الإبداعي بين الموروث والوافد لم يكن مجرد طرح نظري عند يحيى حقي، بل تجلي إبداعيًا بصورة واضحة في روايته الفريدة "قنديل أم هاشم " التي كانت تصويرًا لعلاقة الشرق بالغرب بعد أن عاش حقي في تركيا ما بين عامي 1930 إلى 1934 موظفًا في القنصلية المصرية هناك حيث تابع – كما يقول رجاء النقاش فى كتابه "يحيى حقى.. الفنان والإنسان والمحنة " – "أحداث ثورة مصطفى كمال أتاتورك عن قرب وتعلم اللغة التركية وتعرف بعد ذلك على الحضارة الأوروبية وعاش فى باريس وروما وكان يتقن اللغة الفرنسية" وهكذا يمكن القول إن "قنديل أم هاشم" هى ثمرة هذه الخبرات والتجارب وجاءت رؤيته عقلانية متوازنة على النقيض من التجربة التركية التى اتسمت بالعنف والتهور فإسماعيل – بطل الرواية – الذى تعلم الطب فى الخارج وعاد إلى السيدة زينب محملا بأفكاره التجديدية وإيمانه بأن التقدم لن يحدث إلا بالتمرد على الموروث كله والأخذ بالقيم الغربية وهى رؤية جعلته معزولا عن واقعه غير قادر على التأثير الإيجابى فيه حتى جاءت لحظة التنوير حين اكتشف أنه لن يستطيع تغيير الواقع إلا بمعرفته ومحبته والانتماء إليه على عكس التغيير بالقوة والعنف والإجبار الذى لا يمكن أن يجدى أو يفيد. إن حكمة الرواية أو رؤيتها المركزية تتلخص فى أن تطوير المجتمع لابد أن يتم بالإقناع والتعليم والثقافة لا بالإكراه والعنف. والرواية – أية رواية – ليست مجرد أفكار بكل تأكيد بل هى – قبل أى شىء – بناء فنى متماسك ينبغى أن يحقق غايتين هما: المتعة والفائدة. وهو ما توفر فى هذه الرواية وجعلها شديدة التأثير فى القارئ كأنها – كما يقول يحيى حقى واصفا إياها – "طلقة خارجة من القلب لتستقر فى قلب القارئ" لتزيده وعيا بحاضره واستعدادا لآفاق المستقبل الناهض.