القاهرة 21 يناير 2020 الساعة 10:49 ص
كتب: طلعت رضوان
يعتقد البعض أنّ (مفهوم التسامح) يعني (تعالى فئة على فئة، أو تعالى شخص على شخص) بينما يرى آخرون أنّ التسامح خاصية يجب أنْ تربط جميع أفراد الجنس البشرى وأنّ التسامح لو ساد سيختفى التعصب، وتختفى العنصرية.. ويعم الاستقرار بين الأفراد (داخل المجتمع الواحد) أو بين الأحزاب السياسية، أو بين دول العالم.. وحول هذا الموضوع دارتْ رسالة الدكتوراه- من تأليف د. هويدا عدلي بعنوان (التسامح السياسي) المطبوعة ضمن إصدارات مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان عام 2000.
نقلتْ المؤلفة رأى غاندي، عن مفهوم التسامح، أنه ينطوي على الاعتقاد بسمو طرف على آخر، فمجرّد إعلان شخص ما أنه مُـتسامح يعنى أنه يقارن نفسه بالآخرين.. وأنه أفضل منهم.. وبالتالي فإنّ معتقدات الآخرين أقل قيمة من معتقداته. ومع مراعاة أنّ غاندي قال: إنني أرغب أنْ تهب على بيتي جميع ثقافات العالم، ولكنني أرفض أنْ تقتلعني إحدى هذه الثقافات من جذوري.
وذكرتْ الباحثة أنّ الاهتمام الإمبريقى بدراسة التسامح السياسي، يعود إلى منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، عندما نشر الباحث (ستوفر) أول دراسة إمبريقية عن مدى تسامح الجمهور الأمريكي نحو الشيوعيين.. وكان هدف الدراسة التعرف على اتجاهات عينة من الأمريكيين، لا 21 تتمتع بشعبية أو (مكروهة) فى المجتمع.. وهل من حق المُختلفين التمتع بحقوقهم السياسية والمدنية.. وقد ركز الباحث على الحق فى التعبير، ودارتْ أسئلته حول: هل من حق المُـختلف إلقاء خطاب يـُـعبر عن أفكاره أمام الجمهور.. وهل يصح عرض كتاب يحوى أفكاره فى مكتبة عامة.. وهل يـُـسمح له بالتدريس فى المدارس والجامعات.. وقد أسفرتْ الإجابات عن عدم شيوع التسامح.. والسبب فى ذلك مستوى التعليم الذى يزرع فى عقول التلاميذ- منذ الصغر- حق الإنسان فى الاختلاف.
وأثبتتْ الدراسة إلى وجود علاقة إيجابية بين ارتفاع مستوى التعليم وازدياد معدّلات التسامح السياسي.. والإقرار بحق الجماعات المكروهة بالتمتع بحقوقها السياسية والمدنية.. واستنتج الباحث أنّ التعليم (فى منظومة ديمقراطية) يؤدى إلى زيادة قدرات الإنسان على التآلف مع الأفكار المتنوّعة.. والأشخاص المختلفين، وغرسْ (قيمة أنّ الآخر ليس بالضرورة شريرًا) وأنّ التعليم الديمقراطي يحرص على (مصلحة الوطن) وذلك بتوسيع رؤى الطالب للحياة.. ويـُـشجــّـعه على تعدد منظوراته نحو الحقيقة ويجعله على دراية بوجهات النظر البديلة، فيخلق إنسانــًـا أقل سلطويـًـا وانغلاقــًـا.. وعن العلاقة بين الدين والتسامح السياسي، ربط بعض الباحثين بين التدين والتعصب.. وأنه كلما شعر الفرد أنّ هناك قوى ميتافيزيقة تسيطر عليه، وتقرّر مصيره.. كلما كان ميلا لمجاراة ما هو سائد فى مجتمعه.. وبالتالي للتعصب ضد كل من يختلف مع معتقداته.. وأثبتتْ الدراسات الإمبريقية عن وجود علاقة طردية بين التردد على الكنائس والتعصب، بغض النظر عن نوع المذاهب.. والفرق الدينية. وتوصلتْ بعض الدراسات إلى أنّ الأكثر تعليمًـا أقل تسامحــًـا، والسبب أنّ الأميين يعيشون على (فطرتهم الطبيعية) وبالتالي لا ينزعجون من الاختلاف، لأنهم- أصلا- لا يهتمون بالفروق بين الأديان والمذاهب.. بينما لم يتورّع أنصار المذهبيْن الكاثوليكي والبروتستانتي عن الحكم على (من يختلف معهم بالحرق) وهوما حدث عندما حرق الكاثوليك (هابمير) عام1528.. وحكم الكالفينيون بحرق (سيرفاتوس) بسبب اختلافه معهم فى أمور الدين عام1553.
وفى بريطانيا حدث صراع داخل البروتستانت، بين المُـتطرفين الذين اعتبروا أنفسهم الذين (يفهمون صحيح الدين) وبين الكنيسة الإنجيلية الجديدة.. وذلك بالرغم من محاولة الملكة (ماري) التوفيق بين الطرفيْن.. وكان من رأى فلاسفة هذا العصر أنّ الحل الوحيد هو نشر (قيمة التسامح) ونبذ التعصب الديني والمذهبي.
وبحلول منتصف القرن التاسع عشر لم يعد الانتماء الديني معيارًا للتمتع بالحقوق المدنية والسياسية.. وحلّ محله (معيار المواطنة) ومع تطور أفكارا لفلاسفة والعلماء حول رفع (قيم الليبرالية) صدر عن هيئة الأمم المتحدة فى10ديسمبر1948الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، دون أي تمييز بسبب اللون أو الجنس أو الدين.. وتضمن أنّ 1- التسامح ليس تنازلا ولا تعطفــًـا.. هو قبل كل شيء الإقرار بحق الإنسان فى الحرية له.. وللمختلفين معه.. ويـُـعزّز التسامح من خلال المعرفة والانفتاح والتواصل وحرية الفكر والعقيدة. 2- التسامح هو المسئولية التى تــُـدعم حقوق الإنسان التعددية، بما فيها التعددية الثقافية والدينية.. ويــُـفترض- فى سبيل تفعيله- نبذ الدوجماتية والاستبداد .
وأضافتْ الباحثة أنّ (مفهوم الدين الطبيعي) يــُـعد نمط التدين السائد فى فكر عصر التنوير وتأسّـس التسامح فى عصر التنوير على أساس (وضع الوعى الأخلاقي فوق الوعى الميتافيزيقي.. ومن هنا تتضح أهمية الحرية، حتى تختفى مظاهر القهر المُـتمثل فى إجبار المختلفين عقائديـًـا، على اعتناق معتقدات غيرهم.
وكان جان بودر(1520- 1596) بالرغم من اعترافه بأهمية الدين، فإنه رفض أنْ يتحوّل الدين إلى عامل مقوّض للاستقرار السياسي، لأنّ الصراعات الدينية ستؤدى إلى تقويض وحدة الدولة.. ولذلك اقترح فكرة (حياد السلطة فى مسائل الدين) والاعتراف بحق الاختلاف الديني.. وأنّ مسألة الإجبار على الإيمان مسألة لاعقلانية، لأنها تخلق منافقين لا مؤمنين.. وركز فولتير(1694- 1778) على تحرير الدين من الأبعاد الميتافيزيقية.. وحصره فى مبادئ الأخلاق النبيلة.. وأنّ الله يهتم بفضائل الإنسان قبل صلواته.
وذكرتْ الباحثة أنّ عالم الاجتماع المصرى الكبير (د. سيد عويس) توصل إلى أنّ الثقافة الشعبية تــُـعتبر معينــًـا للتسامح.. وذلك بعد دراسته الميدانية لحى بولاق.. وقال إنّ التسامح متجذر فى التراث الثقافى المصرى (فى المعنى والممارسة العملية على مر التاريخ منذ تكوين الحضارة المصرية، حتى العصر الحديث.. وعرّف عويس التسامح بأنه موقف اجتماعي يعترف بحق الآخرين فى تباين السلوك والرأي.
واتفق كثيرون من المهتمين بدراسة تاريخ الإسلام، على أنّ الاختلاف حول مسألة الخلافة الإسلامية أو الإمامة.. كان السبب الرئيسي لظهور الفرق الإسلامية، حيث كان عدم الاتفاق على خلافة على بن أبى طالب أحد الأسباب الرئيسية التى دفعتْ إلى نشأة المزيد من الفرق الإسلامية، حيث ظهر الخوارج والشيعة والمعتزلة، وانقسمتْ كل فرقة إلى العديد من الفرق.. وكل فرقة ترى نفسها (قيــّـمة على حكم الله فى كل كبيرة وصغيرة.. وتسعى إلى تنفيذ (حكم الله) فكانت النتيجة أنّ أعضاء الفرق قتلوا بعضهم.. وأنّ الخوارج انقسموا إلى عشرين فرقة.
وفى تبرير تعصب الجماعات الإسلامية، كتب فهمى هويدي أنّ السبب يرجع إلى تأويل النصوص الشرعية وتحميلها بما لا ينبغي أنْ تــُـحمّـل به تأثرًا بتركة التاريخ (هويدي فى كتابه: الإسلام والديمقراطية- مركز الأهرام للترجمة والنشر عام1993- ص22) وعن الموقف من الديمقراطية ترفض الجماعات الإسلامية الفكرة رفضــًـا مطلقــًـا لأنها تعنى الحاكمية للجماهير(بينما الحاكمية لا تكون إلاّ لله.. والمشرّع هو الله. والديمقراطية شرك بالله) ويرى محمد عمارة: أنه لا اجتهاد فى الأصول التى بـُـنى عليها الإسلام.. ويرى الشيخ القرضاوي أنّ الإسلام سبق (فكرة الديمقراطية).
وذكرتْ الباحثة أنّ مرحلة الخلافة الإسلامية، شهدتْ دعوة الفقهاء (للرعية) أنْ يــُـطيعوا (حتى الخليفة المستبد، حفاظــًا على وحدة الأمة الإسلامية.. ومعنى ذلك أنّ البيئة العربية تفتقر إلى الشروط الاجتماعية الضرورية للديمقراطية، فضلا عن أنّ الماضي لايزال حيــًـا فى عقول العرب) ويرى المفكر الفلسطيني هشام شرابي (1927- 2005) أنّ الولاء للخليفة الفاسد، انتقل (فى العصر الحديث) إلى الولاء والطاعة للحاكم الفاسد.. وأنّ غياب الديمقراطية يرجع إلى (بنية الثقافة العربية، ومصدرها سيادة الولاء التقليدية سواء قبلية أو طائفية، مما يعوق تبلور شعور عام. ويؤدى إلى غياب التسامح مع الآخر المختلف) ويرى الفقيه القانوني نور فرحات أنه مثلما فشل نموذج الديمقراطية السياسية، أخفق- كذلك- نموذج الديمقراطية الاجتماعية فى المجتمعات العربية.. والسبب هو الاعتماد على آليات المجتمع الأبوي. آليات لا تزال لها السيادة فى المجتمعات العربية.. وعدم نهوض أى تجربة تقوم على أكتاف نظام (فعال للتعددية الاجتماعية والثقافية) فضلا عن سيادة العقلية التلفيقية للعرب.. وهذه العقلية (غير مهيــّـأة لقبول حق الاختلاف.. وهى على الضد من المنهج الديكارتي، المؤسّـس على قبول التعدد والاختلاف) (التعددية السياسية فى العالم العربي- تأليف نور فرحات- مجلة الوحدة- عام1993من ص12- 14).
وذكرتْ د. هويدا أنه بالرغم من النظام الملكي، فإنه بعد الثورة المصرية عام 1919.. وبمقتضى دستور1923جرى انتخاب أول برلمان مصري.. وخاض الانتخابات ثلاثة أحزاب: هم الوفد والحزب الوطني والأحرار الدستوريين.. وفاز الوفد بالأغلبية.. ووفقــًـا لما ذكره المؤرّخ عبد الرحمن الرافعي، حصل الوفد على 90%من مقاعد مجلس النواب.. ولم ينجح من مرشحي الحزب الوطني سوى أربعة مرشحين.. واتفق المؤرّخون على أنّ الانتخابات كانت (حرة ونزيهة) وبلغ من حريتها سقوط رئيس الوزراء (يحيى إبراهيم) أمام مرشحي الوفد.. وأضافتْ: يمكن القول أنّ هذه الفترة كانت فترة نضال من أجل إرساء حياة نيابية فى مصر. وعلى المستوى الدستوري- بالرغم من تدخلات الملك وتعسفه- شهدتْ انتخابات حرة ونزيهة فى بعض الأحيان.. وتداولا للسلطة وإصرارًا من منظمات المجتمع المدني على عدم استئثار الملك بالسلطة وتحقيق قدر من الاستقلال فى مواجهة سلطة الملك.. وشهدتْ نضالا من أجل الحفاظ على ما كفله الدستور من حقوق وحريات سياسية.. والسعي لإعمالها على أرض الواقع (مصدر سابق- ص125).
وأضافتْ أنّ العاميْن1907- 1909كانا من أكثر الأعوام فى تلك الحقبة التى شهدت (طفرة فى نمو الظاهرة الحزبية، حيث ظهر للوجود ثمانية أحزاب.. والمُـتأمل فى أسماء الأحزاب، مثل الحزب الاشتراكي والحزب الجمهوري المصرى، يـُدهش من جرأة هذه الأسماء، فى إطار حكم ملكي مستبد.. وسياق ثقافى محافظ.. ومن تتبع تجربة الجمعيات الأهلية فى مصر، فإنّ الجمعيات الثقافية والعلمية كانت أسبق فى الظهور من الجمعيات ذات الصبغة الدينية.. كما كان لهذه الجمعيات دور فى الحركة الوطنية، فقد سعى العديد منها إلى مواجهة استبداد الحكم.. وتزايد النفوذ البريطاني، وطرح بدائل للإصلاح، مما أدى إلى الصدام بين السلطة والعديد من هذه الجمعيات، وتـمّ إغلاق بعضها مثل جمعية (محفل التقدم) وجمعية (مُـحبى التقدم) بسبب نشاطهما الثقافى الواسع الذى ركــّـز على الدعوة لمبادئ الحرية والإخاء.. وبلغ عدد النقابات فى عام1911، إحدى عشرة نقابة.. وفى عام1912تأسّـستْ نقابة المحامين وارتبطتْ منذ نشأتها بالحركة الوطنية.. ولم يحظر قانون إنشائها العمل السياسي الذى يستهدف مصلحة مصر.. وذكرتْ أنّ الغزو الثقافى التدميري للثقافات الأخرى يصل مداه إلى اتخاذ طريق خاطئ بمجرّد تقبل الثقافة الغازية وكأنها أيقونات (مقدسة) ولكن عجلة التقدم العلمي (نسفتْ تلك الأيقونات لدى بعض الشعوب) (ص61).
كما أنّ الاستسلام للغزو الثقافى يعنى (تقبل الدونية القومية.. والخضوع لثقافة الغازي) وبمراعاة أنّ (كل شعب له ثقافته القومية التى تــُـميزه.. وله شخصيته ولغته وأساليب حياته) وهوما حدث فى أوروبا، بالرغم من أنّ شعوبها ينتمون إلى قارة واحدة.. ولكن كل شعب رفض أنْ (يذوب فى ثقافة شعب آخر) وكتب المفكر النرويجي (توماس هيلاند) (ربما أستطيع تغيير جنسيتي.. ولكنني لا أستطيع تغيير لغتي الأصلية) وذكر أنّ النرويج لا تسمح لمواطنيها بازدواج الجنسية.. وأنّ اللغة النرويجية مليئة بالكلمات المُـستعارة من لغات أخرى.. وأنّ اللغة الإنجليزية هي (خليط من اللهجات الأنجلوساكسونية، والنورماندية.. واللغة الفرنسية.. هي نتيجة التلاقي بين اللهجات اللاتينية والجرمانية الفرنكية فى العصور القديمة والوسطى) (مفترق طرق الثقافات- ترجمة محيى الدين عبد الغنى- المركز القومي للترجمة- عام2012- (من ص50- 61).