القاهرة 31 ديسمبر 2019 الساعة 10:53 ص
حوار: صلاح صيام
نواصل الحوار مع كاتب الأطفال العراقي فاضل الكعبي.. واليوم يحدثنا عن عقل الطفل العربي ومواجهته للمنتج الأجنبي الذى يحاصره من جميع الجهات، وفى مختلف الأوقات ولا يجد فكاكا من ذلك, خاصة فى ظل انشغال الآباء والأمهات, أو جهلهم وعدم اهتمامهم, ويمتد الحديث عن إمكانية تقديم أدب عربي خالص لهذا الطفل.. وإلى نص الحوار..
*ما خطورة تأثّر الأطفال العرب بالمنتج الأجنبي من أفلام ومسلسلات خلاقة؟
للأسف الشديد وصل هذا الـتأثّر وخطورته إلى مدى واسع، وحدّ لا يطاق، ويصعب السيطرة عليه، كل ذلك يأتي بسبب التعاطي المتواصل وبإفراط كبير مع هذا المنتج من قبل الطفل العربي، بعيداً عن رقابة الأهل وتوجيههم، مع فقدان السيطرة الداخلية أمام شهوة الاستهلاك الدائم لهذا المنتج من قبل الطفل العربي، والذي يتَّسع حجمه وخطورته يوماً بعد آخر، خصوصاً أمام قفزات التطور المتواصل في هذا المنتج ، وزيادة نسب الإثارة والمتعة فيه، والتي تأتي في الغالب مليئة بمحتوى العنف والقوة المفرطة وسيادة النزعة الفردية في البطولة والسيطرة، وكل ذلك مما نحذر منه ولا نسمح بكتابته في الكتابة العربية للطفل العربي، وللأسف الشديد يأتي هذا الأمر في الغالب بتشجيع من بعض الآباء والأمهات الذين لا يعون خطورة هذا الأمر ويدركون آثاره وعواقبه على نفسية الطفل وعلى سلوكه وانفعالاته وعلى شخصيته وثقافته الخاصة.
وقد ذكرت ذلك مراراً ونبَّهت عنه في أكثر من دراسة وبحث ومقال وحتى في العديد من الكتابات الإبداعية من قصص وقصائد ومسرحيات، ولكن مازال الكثير من الخطر محدقاً ويحيط الطفل العربي من كل اتجاه، خصوصاً أمام تفاعل وتفاقم المنتج التكنولوجي ووسائله ووسائطه الرقمية والاتصالية التي تأتي إيجابياتها بكثير من السلبيات والمخاطر الصحية والنفسية والأخلاقية والتربوية والسلوكية وغيرها، والدليل على تلك الأخطار واتساعها في شخصيات الأطفال العرب ما نجده في مجتمعاتنا العربية الآن من آثار لذلك، حيث تنقل لنا الأخبار في كل يوم، نماذج صادمة من تأثير هذه المنتجات على الطفل العربي، فهنا طفل يطعن معلمته بسكين نتيجة تأثره بنتائج لعبة إلكترونية أجنبية أدمن عليها وتأثر بها حد الخنوع لإرادتها، وذاك طفل ينتحر في غرفته بعد أن تلقى توجيهاً معيّنا من مسلسل أجنبي شاهده على إحدى القنوات الفضائية ، وهذا الطفل وذاك، وهذا، كثير من النماذج الإجرامية العنيفة الخطيرة التي طالت الأطفال وترسّخت في سلوكياتهم وأفكارهم في مجتمعنا العربي نتيجة أكيدة لتأثرهم الشديد والواضح بالمنتج الأجنبي من أفلام ومسلسلات وبرامج وألعاب وغيرها، في ظل الانفتاح الكبير والتعاطي والاستهلاك اليومي وعلى مدار الساعة مع هذا المنتج، بعيداً عن رقابة الأهل، بل أمام جهل البعض من الأهل وضعف الوعي وتدني الثقافة والمعرفة لدى البعض الآخر منهم.
*هل يمكن إنتاج أدب عربي للأطفال يليق بمكانة الطفل العربي ويسحبه من تلقي المنتج الأجنبي إلى التماهي مع هذا الأدب الغربي؟
نعم، يمكن ذلك بكل جدارة ومهارة وتفوّق، ولِمَ لا يمكن ذلك، ما المانع, فلدينا ما شاء الله نخبة مبدعة وخلاقة من الكتّاب والأدباء والرسامين العرب المتخصصين بهذا الأدب، وبالإمكان إنتاج هذا الأدب بكل براعة وجدارة إذا ما اجتمعت النوايا المخلصة، ووجدت الأرضية المناسبة لذلك، وتوفَّرت التقنيات والإمكانيات المادية والفنية الداعمة لإيجاد هذا الأدب ووفرته وانتشاره على نطاق واسع بين جماهير الأطفال على امتداد المساحة العربية.
*برأيكم، ما هي مواصفات هذا الأدب في إنتاجه المثير لاهتمام الطفل العربي، وكيف يتم إنتاجه وتمويله؟
لا أعتقد صعوبة في ذلك، أمام وجود المواهب والقدرات الإبداعية والفنية الخلاقة في الكتابة والرسم في عالمنا العربي، مع وجود الإسناد المادي من الأموال المطلوبة لهذا النتاج الكبير والمهم الذي نراه بمواصفات خلاقة وغير تقليدية، وتتجاوز المألوف من النتاج التقليدي الحالي الذي يعجز الكثير منه على جذب الطفل وإقناعه بما لديه في الشكل والمحتوى، ومواصفات هذا الأدب المرجو والمأمول هي ذات المواصفات التي نتأمَّلها ونرجوها في الأدب الجيد الذي يتَّصف بمواصفات الجودة والجمال والرقي في كل سماته وبنيته ودلالاته، وليس غريباً؛ ولا عصيَّاً على المبدع الحقيقي أن يصنع ويبدع لنا هذا الأدب الساحر والمميز بمواصفات الجودة والجمال، وهناك لدينا مساحات واسعة من الإبداع العربي في هذا الأدب.
يطول بنا المقال والمجال إذا ما أردنا التعرّض إلى النماذج الحية فيه، وبالإمكان جعل هذه النماذج بالمستوى المتقدم والراقي في الإنتاج الذي يمكن له أن يثير شهية الطفل المتلقي ويثري ذائقته القرائية والحسية في التلقي والتذوّق الجمالي للأدب الراقي، والمثير والمحفّز لكل مكامنه وطاقاته الخيالية والوجدانية والعقلية والحسية والابتكارية والنقدية، ويدفع بمواهبه الخفية إلى الظهور والتحفّز والنمو والتطور، فأدب الطفل الحقيقي والمثير والمدهش والجيد هو بمثابة الطاقة الهائلة التي تحرّك مجمل مكامن الطفل، وتنعش وجدانه وعقله وخياله، وتدفع به إلى اتجاهات الإبداع وصيرورته، وأكثر من ذلك ما يصنعه هذا الأدب في نفس الطفل وفي قدراته، هذا إذا أتي هذا الأدب وانطلق من تلك المواصفات التي أشرنا إليها من قبل.
ولذلك نرى أن هذا الأدب لا ينمو وينتعش ويتطور خارج إطار الدعم المتواصل والتمويل المناسب له، وهذا التمويل يتطلب أن تدعمه الدولة وتشجّعه دائماً لكي يديم العطاء والرقي، ومن من دون دعم الدولة دعماً سخياً ومحفزاً لا يمكن لهذا الأدب الانتعاش والنمو، أما إذا تركنا هذا الأدب لدعم وتمويل دور النشر الخاصة فهذا الأمر سيجعل من أدب الأطفال سلعة تجارية تخضع لسوق الطلب، ولحالة الربح والخسارة، ومع تحفّظنا التام على مسألة الربح في أدب الأطفال إلا أننا مع ذلك نعطي الحق لدور النشر في هذا الجانب، فهي لا يمكن أن تستمر بدعم وتمويل مشاريعها في إنتاج كتب أدب الأطفال ما لم تلق استجابة لها في السوق، وتروج لهذه الكتب وتجني من ورائها الأرباح التي تمكنها من مواصلة الإنتاج والإصدار الدائم لكتب الأطفال، ولهذا نحن نصر على أهمية اهتمام الدولة ودعمها لأدب الأطفال، ففي ذلك منفعة كبيرة لهذا الأدب ولكتّابه ولمتلقيه، وكذلك يشكل هذا الدعم تحفيزاً للمبدعين الحقيقيين في مواصلة الكتابة والإبداع الجيد، والوقوف أمام الأدب الرديء ورفضه، وعدم القبول بأي كتابة تدعي الأدب والانتساب إلى أدب الأطفال من دون أن تستجيب لاشتراطات الجودة والفن الراقي في مواصفات كتابته واستجابته لهذه المواصفات واشتراطات الجودة فيه، تلك التي مررنا عليها قبل هذا.
ونكمل فى الحلقة القادمة إن شاء الله.