القاهرة 10 ديسمبر 2019 الساعة 11:22 ص
محمد سمير مصباح
قبل أن اشتريه، جذب انتباهي بشدةٍ صورة غلافه؛ ففي الأعلى عينٌ وكأنها الأبدية، تُبصر كل شيء وتراقب الوجود، وفي الأسفل يدٌ تمسك بسمكة، لم أفهمها في البداية ولكن عندما ربطتها بموضوع الكتاب اكتملت الصورة، هي سمكة المسيح، الشعار الذي استخدمه المسيحيون الأوائل في الإسكندرية أيام الإغريق ليتعرفوا على بعضهم البعض تجنبًا للمضايقات والاضطهاد من الوثنيين. وبين الصورتين كُتِبَ بخطٍ عريض "صلاة خاصة".
يحاول الكاتب صبحي موسى من خلال روايته "صلاة خاصة" جمع تاريخ المسيحية وكل ما يخص الكنيسة المصرية من صراعات وآراء ومجادلات، فنتعرف على الدور الكبير الذي لعبه الفكر المصري في صياغة وتشكيل الفلسفة والفكر واللاهوت المسيحي. ومن جهة أخرى يؤرخ لبداية حركة الرهبنة في مصر سواء الفردية أو الجماعية، التي لعبت دورًا ثقافيًا ودينيًا رائدًا في التاريخ المصري والمسيحي في آن واحد في الوقت الذي خَفُتَ فيه نور مدرسة الإسكندرية.
ويرصد الكاتب عورات المجتمع، المتمثلة في رفض الآخر والتحامل عليه بسبب دينه أو عرقه أو مذهبه، وأن جذور هذا الرفض متشعبة في التاريخ وعابرة للأديان.
وضع المؤلف هذا التاريخ الحاشد في إطار قصة حب تدور في أعقاب ثورة يناير 2011 بين "أنطونيوس" الذي يعيش حياته ككاهن في دير، و"دميانة" التي تقابله أثناء عملها كمحققة في نفس الدير وهو دير الملاح. وجاءت الرواية على ثلاثة أقسام، الأول بعنوان (أنطونيوس/ الجسد الذي يُبذل)، والثاني (دميانة/ عاصفة الجنون)، والثالث (ملاك/ الروح القُدُس).
مع تطور حبكة الرواية نتعرف على تاريخ دير الملاح، الذي أسسه جبرائيل الملاح في منتصف القرن الثالث الميلادي بعد أن فر بدينه من اضطهاد الرومان في عهد الإمبراطور الرومانى ديسيوس، حتى وصل إلى هضبة عالية عند جبال القلزم (جبال البحر الأحمر) ظنها آخر حدود العالم، لتكون ملاذه ومقر صلواته ومناجاته. وقد منحته الصحراء الشاسعة ووعورة التضاريس العزلة التي تمناها، والتواصل الروحي بينه وبين ربه. وظل الدير شاهدًا على الكثير من الصراعات بين الكنيسة والمهرطقين قديمًا، وصراعات الكنيسة والرهبان في الوقت الحالي ومشكلات الانفصال.
تَكسّر مسار زمن القص في الرواية، وتوزع على مساراتٍ عدة، وتداخل مع بقية العناصر الروائية، وتداخلت فيه المستويات الزمنية من ماضٍ وحاضر ومستقبل تداخلًا عجيبًا. فيلعب الزمن دورًا محوريًا في تطور حبكة الرواية؛ حيث تختلط الحكايات وتتضافر كالجديلة، ويتنقل الكاتب بينها عبر فصول الرواية، ولكن الحكايات تتوازى، لا تتقابل. تسير حكاية أنطونيوس ودميانة وملاك في خط درامي مستقل عن رسائل أوريجانوس وما تحوي من تاريخ وفلسفة وفِكر. وعلى نحوٍ مُستقلٍ تمامًا، تتطور حكاية جبرائيل الملاح ولبؤته وأشبالها الأربعة وبنائه للدير، ومن بعده تلميذه ديمتريوس ونائبيه أبانوب ورفائيل. ولكن ما أن تتباعد أزمنة الرواية وتختلف وتتوازى خيطوها تعود ويجمعها مرة أخرى دير الملاح. يقول "ملاك" كاتب الدير: "في البدء كانت هضبة الملاح".
كان للزمن المتشظي في الراوية بالغ الأثر على لغة الخطاب الروائي وعلى لغة الشخصيات؛ فنجد اللغة تنتمي لزمنها وبيئة عصرها، ففي الحاضر يستخدم الكاتب ألفاظ كـ (ميكروباس، موبايل، چركن مياه، جريدة، كنبة، دُش، كومبيوتر،السلفيين، سيارة ترحيلات) وغيرها من الألفاظ المستخدمة في الحياة اليومية حاليًا. وفي رسائل أوريجانوس يغلب على اللغة الألفاظ المُعجمية والطابع الفلسفي، وتميل إلى الطقوسية عندما يتطرق إلى ممارساته وآرائه الدينية والصراعات المذهبية.
نجح الكاتب في بلورة اللغة الطقوسية المرتبطة بالدين المسيحي؛ سواء في سياق تاريخي أو سياق معاصر، كالمعمودية والتناول والكهنوت والتنيُّح والاعتراف وأسبوع الآلام والكنائس والأديرة والمجامع والصليب ويسوع والعذراء، والألفاظ المُعبرة عن شعائر الكنيسة واللاهوت.
يتحد الزمن الفيزيائي في الرواية من ليلٍ ونهار وما ينشأ عنهما، مع الزمن النفسي عند الشخصيات، فقد تباطأ الزمن في ذات أنطونيوس عندما أبلغه ملاك بخطف يوساب ومعاونيه لدميانة، فلم يغفل له جفن ليلة كاملة وكأن الزمن توقف ولم يعُد يشعر به، ويذهب لغرفة التحقيق في اليوم التالي، رُبما آمِلًا بأن يجد دميانة في مكانها، لم يحدث لها مكروه. ويختلف الزمن عند أوريجانوس، فزمن كتابته للرسائل أقل بكثير من الزمن الذي يستحضر فيه أحداث رسائله ومدى تأثيرها على نفسه وقت كتابتها وكأنها يعيشها لمرةٍ أخرى.
وكما تعددت شخوص وأزمنة الرواية، تتعدد أيضًا مراكز الصراع الديني، مثل كنيسة الإسكندرية، وكنائس روما وأنطاكيا والقسطنطينية وأفسس و كبادوكيا والقدس ونيقية وغيرها. يأخذنا موسى في رحلةٍ جغرافية مميزة للعديد من الأماكن في مصر حيث توجد الشخصيات باختلاف عصورها.
بالرغم من تعدد الأمكنة في الرواية، يظل انعكاس دير الملاح واضحا على الشخصيات وتطور الحبكة ورصد الأحداث القديمة والحديثة، فهو ملاذ أنطونيوس وجنته، ودار نعيمه الذي ظل يطارده الكلب السماوي كي يصل إليه، يشعل ثورة ليحاول تطهيره من دنس القهر والدكتاتورية ومن المكائد والدسائس. وهو بيت الحب والعاطفة لدميانة؛ لأنها قابلت فيه أنطونيوس، ولكن يتحول لكابوس تتمنى الاستيقاظ منه، لما فعله بها يوساب. وبالنسبة لملاك، الدير هو بيته وعالمه حيث وجدوه رضيعًا على بابه في أحد الشتاءات بعد أن تركته أمه، ومقر صلاواته الخاصة بين الكتب، يشعر بالاغتراب خارجه. ويعتبره يوساب مُلكه الأبدي ومركز سلطته الذي يسعى للسيطرة التامة عليه والتحكم بخيوط أحداثه، ويرغب دائمًا قي تنصيب نفسه إلهًا على من فيه، وهنا إسقاط على الحكومات الدكتاتورية والشخصيات السلطوية التي تستحق الثورة على سياساتها.
أيضًا هو محرك أساسي للأحداث باختلاف أزمنة السرد؛ فيه تتفتح فيه مشاعر الحب بين أنطونيوس ودميانة، وما يتبعها من اشتعالاتٍ ومكائد وقتل وخطف وثورة. ومن مكتبته تظهر لنا رسائل أوريجانوس التي يقرأها كاتب الدير "ملاك"، وتستقل بفصولٍ تتخلل بناء الرواية. وعلى هضبة الملاح نشأته بعد التجاء العديد من المسيحيين الهاربين من بطش الرومان إلى جبرائيل الملاح في عزلته هو ولبؤته وأشبالها، ورغبةً منهم في مشاهدة أسطورة اللبؤة التي يستأنسها رجل وكأنها كلبه المدلل في مكانٍ ناءٍ في جبال القلزم. وغيرها من الأحداث التي تجعل من دير الملاح نقطة ارتكاز.
الشخصيات مُشكَّلة بدقة، تتداخل وتلتحم معبرةً عن فلسفتها ومنطقها ولغتها الخاصة ورؤيتها لما حولها. فدميانة تتخفى في ثوب المحققة هروبًا من المجتمع الذكوري وخيبات الأمل. وأنطونيوس قاطع طريق تائب وجد طريق الرب على يد إيمانويل كاهن دير الملاح، وأوريجانوس العلّامة ذو الآراء الفلسفية واللاهوتية، الذي أخصى نفسه عقابًا لما تبدى منها من مشاعر حب أغضبت الرب، وأخرجته من ثوب الرهبنة. ويصف الكاتب أفاعيل النفس البشرية بين كهنة الأديرة والكنائس من مكائد ومشاحنات وصراعات على السلطة.
استخدم الكاتب تراكيب بسيطة للجُمَل، كما تنوَّع أسلوبه في السرد فاستخدم زمن الهاجس أو أسلوب المناجاة الذي أبرز قدرته على وصف المشاعر البشرية والانفعالات النفسية التي تحدث داخل الشخصية والذي أسهم في خلق بُعد زمني جديد لبنية الرواية، أضفى ملحمية على الأحداث.
برع الكاتب في تكوين مشاهد الرواية وتصوير حركة الأشخاص بشكل سينمائي يمنحك رؤية واقعية خاصة داخل الحدث؛ فمثلًا كلما اجتمع أنطونيوس ودميانة وملاك في غرفة التحقيق، أكون رابعهم. أراقب النظرات المتوترة المليئة بالحب والخجل والخوف من المجهول، ونظرات ملاك لهما وشروده أحيانًا وانهماكه في الكتابة.
ومن خلال الحشد الكبير لأحداث وشخصيات وأزمنة الرواية، يلتحم التاريخى والواقعي بالأسطورى، فنرى مثلًا لبؤة الملاح الأسطورية وأشبالها تخرج بعد موتها بقرونٍ لتلقي الرعب في قلوب أتباع يوساب الذي يسعى لفرض سيطرته على دير الملاح ويخطط لقتل دميانة وأنطونيوس. ويخلق لنا الكاتب ملحمة تاريخية ودرامية عن طريق السرد. ولكنه ابتعد عن الملحمية وحبس الأنفاس في الإيقاع، واختار إيقاعًا هادئًا في معظم الأحداث ليناسب الحالة الروحانية للرواية التي يغلب عليها المناجاة والابتهال والحزن، ولكن تتصاعد الدراما تدريجيًا ويتصاعد معها الإيقاع في الحبكة الأولى للرواية وصولًا إلى نقطة الذروة.
يُطل الثالوث المقدس - رُبما بشكلٍ غير مقصود- في ثنايا الأحداث، فتمتلئ الحكايات بثلاثيات مختلفة ومتعددة، بدايةً من أجزاء الرواية الثلاثة وأبطالها أنطونيوس ودميانة وملاك، ديمتريوس وأبانوب ورفائيل، صلاح متري وتريزا ودميانة، وغيرها من النماذج التي تمنح القصة طابعًا خاصًا تدعوك للتماهي مع بنية النَص.
رسائل أوريجانوس لصديقه ديونيسيوس بطريرك كنيسة الإسكندرية، تمثل ركنًا أساسيًا من أركان الرواية. وتُظهر جانبًا كبيرًا من تاريخ الاضطهاد للدين المسيحي، وتطرح رؤىً وأفكارًا أسست مدرسة التفسير الرمزي للمسيحية، من خلال رحلة روحانية يغلب عليها المحبة والعبور في الألم للوصول إلى السلام والتصالح مع النفس.
تطرح الرواية فكرة الخير والشر، فلكل حكاية شريرها الذي يضطهد ويظلم ويُلفّق التهم ويرمي أعداءه بالهرطقة. يظل الخير والشر في سجالٍ إلى أن ينتصر الخير والحب في النهاية، أو هكذا يأمل الكاتب.
"أوضح رئيس التحرير أن الكنيسة من المناطق المحرمة، فلا الكنيسة تتحدث عن مشكلاتها، ولا أحد يملك أن يتحمل مسئولية إحداث فتنة بين المسلمين والأقباط، ومن ثم فالجميع يعتبره شأنًا داخليًا". (ص 521).. ولكن صبحي موسى طرق الأبواب المحرمة وحكى عن المسكوت عنه من مشكلات الكنيسة التي لا يحب الكثير من المسيحيين التفوه بها، والصراع الكنسي حول وحدة الرب والأقانيم الثلاثة الذي اتهم العديد بالهرطقة بسبب الجدال فيه، و المجامع المسكونية التي عقدت في خضم الصراع بين كيرلس أسقف الإسكندرية ونسطورس بطريرك القسطنطينية حول تلقيب العذراء مريم بـ "أم الإله" كما كان يطلق على الإلهة المصرية "إيزيس". كما يتطرق لنظرة الجهاديين والسلفيين وبعض المسلمين للمسيحيين محاولًا الإلمام بكل ما يخص العالم المسيحي وما يدور في فلكه.
ولا يتوقف الكاتب عند هذا الطرح، بل يعقد مقارنة بين الفكر المتطرف في التاريخ الإسلامي سواء قديمًا كالخوارج أو حديثًا كتنظيم القاعدة، والفكر المشابه له في التاريخ المسيحي كالذي قام به الكاثوليك من إبادةٍ وطرد لمسلمي الأندلس عقب انهيار دولتهم، أو ما فعلوه مع هيباتيا التي كان قتلها مأساويًا؛حيث تتبعها عدد من المسيحيين - مدعيين تطهير مدينة الرب من دنس شيطانة الكفر- بعد خروجها من إحدى ندواتها، وقاموا بجرها من شعرها، ونزعوا ملابسها وجروها عارية في شوارع الإسكندرية حتى تسلخ جلدها، ورجموها بالحجارة والرخام، ثم إمعانا في تعذيبها قاموا بسلخ الباقي من جلدها بالأصداف إلى أن صارت جثة هامدة، ثم ألقوها فوق كومة من الأخشاب وأشعلوا بها النيران.
وهنا يتضح لنا رؤية الكاتب في استعراض فعل الاضطهاد في مختلف أزمنة السرد، ويُظهره كفكرة إنسانية تحدث للأقلية، وتتبادل الأدوار. ويلعب الزمن هنا دورًا مهمًّا أيضًا، فالاضطهاد يحدث في كل الأزمنة، سواء في الوقت المعاصر من يوساب ضد دميانة وأنطونيوس، أو من الجهاديين ضد المسيحيين. أو قديمًا من الوثنيين والرومان ضد المسيحيين، أو من المسيحيين ضد الوثنيين عند الاعتراف بالمسيحية كدين رسمي، أو من المسيحيين ضد مسلمي الأندلس.
ويتّبِع الكاتب أسلوب التدرج في عرض رؤية الرواية الخاصة بفعل الثورة، فهو من خلال العرض البانورامي للتاريخ المسيحي يبرز دائمًا أهمية المقاومة، فيبدأ بالمقاومة السلبية التي تظهر في رفض أبطال الرواية في الحقبة القديمة ترك دينهم والإذعان لرغبة الرومان في تقديس أباطرتهم، وتفضيلهم الاختباء في مغارات الصحاري تجنبًا للاضطهاد والقتل. ثم يتطور الأمر بشكل إيجابي قليلًا في الوقت الذي يحتد فيه الصراع الكنسي عن طريق المراسلات والمجادلات في المجامع المسكونية للدفاع عن رأي أو فلسفة دينية. ويتجلى فعل المقاومة بإيجابية واضحة في العصر الحديث وذروة الأحداث باشتعال الثورة.
تشغل الكتابة التاريخية حيزًا كبيرًا من اهتمام الكاتب، فصبحي موسى مشغول بهموم الوطن، ويبحث عن جذور المُشكلات وحلولها في الماضي. يتضح هذا بشدة في معظم أعماله، فهو ينغمس في التاريخ ليعيد صياغته مرةً أخرى رابطًا الماضي بالحاضر، ويخلق واقعًا وفلسفةً خاصة تعطي العبرة وتُنير الطريق للمستقبل.
يدعونا صبحي موسى أو الكاتب ملاك إلى أداء صلواتنا الخاصة، وهي الكتابة عن ما نعرفه أو المسكوت عنه لتكتمل الصور لدينا وتترابط، فـ "كل كتابة هي صلاة خاصة لكاتبها" ولكنها صلاة من حق الجميع.