القاهرة 10 ديسمبر 2019 الساعة 11:07 ص
كتب: طلعت رضوان
هانى الصلوى شاعر يمنى.. ويـُـعتبر إضافة غاية فى الأهمية للتراث اليمنى، الثقافى والحضارى.. وهو بجانب دواوينه الشعرية التى منحها تلك العناوين الدالة عن تفردها مثل (على ضفة خيال المغنى- عام 2004) و(ليال بعد خولة - عام 2008) و (ما لا ينبغى أنْ يقال- عام2011 ) و (غريزة البيجاما- عام2012) و (تعدين أذن بقرة- عام 2014) و (يتمطى عاريـًـا فى الدقة عام 2015) و (لا كرامة لمستطيل) إلخ.
وأعتقد أنّ هذه العناوين المُـحمّـلة بالغموض المُـكثف، تدل على خبرة عميقة بأهمية التجريد والابتعاد عن المُـباشرة.. وهو ما سيتأكد عند تناولى لبعض قصائده، حيث يلجأ- دائمًـا- إلى الإيحاء الذى هو أكثر.. وأعمق تأثيرًا من الإفصاح.
والشاعر هانى الصلوى بجانب تميزه فى الإبداع الشعرى، فإنه كذلك صاحب مشروع فكرى/ حداثى.. وأصدر بعض الكتب والدراسات، لشرح وجهة نظره عن (مفهوم العصرنة) والدفاع عن قيم وأعراف العصر الحديث.. وهو أيضًـا مدرس بجامعة تعز.. ومؤسس ملتقى النص الجديد (ما بعد قصيدة النثر).
من بين دواوينه ديوان (كتاب الهزيمة) وعنوانه الفرعى (أنزه مشوارنا عن بلوغ الأمانى) الصادر عن سلسلة (بورصة الكتب- عام2015) بدأ الديوان بقصيدة قصيرة قال فيها: كان فتى/ يحلم أنْ/ سوف يطير/ بأوراق النعناع/ فراشـًـا.
قصيدة من تسع كلمات.. ومع ذلك مُـحمّـلة بأفكار عن التوق.. والتشوق الإنسانى نحو التخلص من الالتصاق بالأرض، ليكون الإنسان مثل الفراشات والطيور. أما مركبته الفضائية فهى من (أوراق النعناع) لأنّ النعناع له- من بين فوائده العديدة- خاصية (تحسين وظائف المخ) الأمر الذى يـُـساعد على التفكير الهادئ المُـتأمل.
فى قصيدة (كان يعبر أوردة الريح) تناول قصة الغلام الذى ((تاه فى غبار المواقيت)) وكان الشاعر ((يمشى مع الناى)) ويتذكر ((وطنــًـا سال/ من مقل الأقحوانة)) ثم يـُـخاطب الغلام قائلا: اعتبرنى أقلب أجندة المستحيل.. وعندما يتذكر مدن اليمن، فإنّ الشاعر يفاجئ القارئ بمفارقة غير متوقعة حيث قال ((بائعة الفل تفتح نافذة/ كالجحيم)) فكيف يجتمع (الفل) مع (الجحيم)؟ تساؤل إبداعى- بلغة الشعر- عن مأساة الشعب اليمنى، يـُـلخــّـصه التناقض بين الاسم التاريخى (لليمن السعيد) وبين الواقع المعاصر الذى حوّل اليمن إلى (جحيم) يكتوى الشعب بلهيبه.
ولأنّ الشاعر مهموم بوطنه وشعبه لذلك قال عن الغلام الذى رآه ((أعرف هذا المُـسجى/ بسمرته/ أتقن أوراده/ كان يعبر أوردة الريح)) ثم أضاف أنه يحفظ أسماءه. فلماذا كتب (أسماءه) بصيغة الجمع؟ وهل يوجد تفسير آخر غير أنّ الشاعر رمز بهذا الغلام إلى مجموع أبناء الشعب اليمنى؟
ومما يؤكد عمق وصدق تفكيره بوطنه.. والمتغيرات التى حدثتْ فى السنوات الأخيرة، أنه فى قصيدة (أتمتم بالجمركى تمرق الشائعات) يبدأها بالذى ((شذّبته الأعاصير.. وهام على قلبه.. وبعد أنْ يذكر أباريق (الدموع) يلقى التحية على (منطقة ذبحان) بمحافظة تعز.. وفى المقطع التالى يطلب ويتمنى الذهاب مع وإلى ((قلق الراحلين)) فلماذا وما الهدف؟ لأنه تشوّق لرؤية منطقة يمنية بينه وبينها (ود سابق) إنها منطقة (معافر) التى تغيـّـر اسمها.. وتدعى الآن الحجرية، ومنها منطقة (ذبحان) وهناك يجتر أحزان الشوارع.. والأهم هو تقلبات الدهر.. وتلك التقلبات هى مثل (رغو الزعامات) هنا يكشف الشاعر عن (خطورة الأدعياء) الذين يتصـدّرون المشهد السياسى.. ويأحذون (صفة الزعماء) وينخدع الشعب فيهم، بينما هم فى حقيقتهم مثل (رغاوات الصابون) أو مثل أى (فقاعات) فارغة لا فائدة منها ولا خير فيها.
والشاعر يستلهم التراث الشعبى اليمنى، فى البداية قال أنه ((ينتمى للأبر)) من أبناء شعبه..وبمفهوم المخالفة- كما يقول القانونيون- فإنه لايعترف بالذين خانوا الوطن، أى الأشرار(وهو اللفظ النقيض للأبرار) وفى الشطر الثانى من البيت يستعين بمقطع صغير من أغنية يمنية، جاء فى مطلعها ((سلــّـم على باهى الخد)) مع ملاحظة أنّ لفظة (باهى) فى قواميس اللغة العربية، تحمل معانى الحـُـسن والجمال..وتحمل معنى المحافظة (على الأصل) وتحمل معنى الإشراق والنضارة، وهذه المفردة بمعانيها المتعـدّدة تــُـمهد للبيت التالى، حيث أنّ الشاعر فى (فمه طلح صنعاء) فلماذا اختار الشاعر تلك اللفظة (طلح)؟ لأنّ من بين معانيها فى قواميس اللغة العربية: شجر عظيم له شوك وصمغ، أى أنّ العاصمة اليمنية (صنعاء) تطرح الشوك والصمغ، وإذا كان الصمغ له استخداماته العديدة، وتصديره يعود بالخير على الشعب اليمنى، فماذا عن (الشوك)؟ أى أنّ الشاعر وضع صنعاء (العاصمة السياسية والتى تــعتبر من أقدم المدن اليمنية) فى المحك.. وعلى الشعب أنْ يختار: فهل سيــُـدافع عن الصمغ الذى تطرحه تلك الشجرة العظيمة، أم سيستسلم لشوكها.
وفى البيت التالى- أيضـًـا- يستمد من تراث شعبه أغنية تغنى بها أبناء صنعاء جاء بها: ((لاح السناء لاح)) فإذا كان لفظ (لاح) يدل فى اللغة العربية على معانى: ظهر، أومض، أبرق.. إلخ، فإنّ المقصود هو أنّ شيئــًـا (ما) سيظهر فى سماء وأفق اليمن، فماذا سيكون هذا المُـنتظر ظهوره؟ خاصة وأنّ لفظ (سناء) فى اللغة العربية له معان عديدة: منها البرق، والعلو والارتفاع وضوء القمر.. وبالتالى فهو لفظ مُـحيـّـر عند توظيفه فى بيت شعرى؛ لأنّ الضياء فى معنى (ضوء القمر) هو نقيض (البرق) الذى يــُحدث الرعب.. وأحيانــًـا يتسبـّـب فى بعض الخسائر.. ولكن الشاعر انحاز للتفاؤل، فقال فى البيت التالى: ((ستخضر من وقع أقدامهم طرق وسمان)) أليس تعبير (لاح السناء لاح) المذكور فى الأغنية الشعبية، يتناص مع المأثور الإسلامى ((طلع البدر علينا))؟
والشاعر يبدأ المقطع التالى بالتعبير عن حنينه لوطنه فقال: صباحك صنعاء.. ولكنه بعد هذه التحية الصباحية أضاف التعبير الاستعارى الموجع للقلب، فكتب: أبصم أنى انهزمتُ.. وبعد أنْ وضع فاصلة تساءل: لماذا التشفى؟! وبالرغم من أنه تجاهل الكشف عن تفاصيل هذا التجاهل (وتركه لفطنة القارئ) أشار إلى ما يساعد على فهم مأساة الشعب اليمنى، فكتب: فى الصخر يقطعنى أجل رابض فى مسامى. أنا الأرق المُـستطيل، أرى السراب مشتبكــًـا ليطير.
فإذا كان من خصائص الصخر- كما تعمّـد الشاعر اختيار هذه الكلمة- الصلابة والصمود.. ويعنى- بجانب ذلك- صعوبة الحياة، فإنه (الصخر) فى كل الحالات: رابض فى مسام الشاعر، كما هو رابض فى مسام الشعب اليمنى، الذى يعيش (شعور الأرق والقلق) وينظر إلى المستقبل كما لو كان ينظر إلى السراب.
وفى المقطع التالى (بعد أنْ ألقى التحية على صباح صنعاء) قال إنّ (مشقة السير) أى مشقة الحياة فى هذه الظروف، جعلته يزداد صلابة فأعلن أنه لا يقبل المساومة (فى كل ما يتعلق بشئون الوطن) واختتم هذا المقطع قائلا أنه طاف بين مأرب والكاظمية (فهدًا) تلمّستْ أحلامه.. وهكذا فإنّ الشاعر فى معظم قصائد الديوان يتذكــر وطنه، مع الإشارة إلى المدن المختلفة.. وبصفة خاصة المدن الأثرية مثل (مأرب) وهو ما تأكد فى المقطع رقم12حيث قال: المجاز الذى همّـشته الكنايات: يسأل عن ((وطن فى عداد الرمال)) فهل وصل اليأس بالشاعر- نظرًا لما يراه من السهام المًـصوّبة إلى شعبه اليمنى.. ومن (جيران وأشقاء عرب) وكأنّ اليمن (بتاريخه العريق وحضارته المتميـّـزة) صار مثل (حبات الرمل) بمعنى (بلغة المجاز والكنايات) كما بدأ هذا المقطع، أنّ اليمن (الوطن والشعب) بلا قيمة فى نظر الأعداء والمُـتربصين به.. والطامعين فى موارده وموانيه وحدوده؟
وفى المقطع رقم14من نفس القصيدة قال: ماذا يقول المُـسابل (أى المُـغامر وفق لغة الشعب اليمنى) وهذا المغامر وجد نفسه فى ((فـُـوهة الجرح)) وهذا التعبير بلغة الشعرفيه درجة عالية من البلاغة الإبداعية.. خاصة أنّ لفظ (مغامر) يعنى- وفق قواعد اللغة العربية- المجازفة التى تعنى- بدورها- النجاح أو الفشل فى تحقيق هدف (ما) وبالتالى فإنّ الإنسان المغامر فى القصيدة، لا يهتم بوقوع الفشل، ويـُـصر على السير فى طريق النضال، بغض النظر عن النتيجة.. وما يؤكد ذلك أنه أضاف فى البيت التالى: يا ليت هذا الحمام لنا.. وأعقب ذلك بالإشارة إلى الوطن حيث قال: هذى ركائب جازان تمخر منك العباب.. ومع ملاحظة أنّ جازان مدينة يمنية تاريخية. ومع ملاحظة- ثانيـًـا- أنه قال: تمخر منك العباب.. ولم يقل تمخر العباب، لأنه لو قال: تمخر بدون كلمة (منك) يكون قد ردّد المعنى التقليدى.. ولكنه تعمّـد أنْ يـُـضيف (منك) كدليل على أنه هو مبعث العباب.
والشاعر لا يكف عن الإشارة إلى وطنه (فى كل قصائد الديوان) فذكر فى المقطع التالى (مدينة صبيا) التابعة لجيزان اليمنية.. ولكى يؤكد خصوصية اليمن واختلافها عن غيرها أضاف ((مالى ومكة))..واختتم المقطع مخاطبـًـا مدينه اليمنية (صبيا) قائلا: إنّ دموعك تصهرنى.. وهو تعبير مُـحمّـل بدلالات بلاغية.. حيث إنّ الشاعر (أنسن) مدينته وجعلها مثل الإنسان الذى يـُـعبـّـر عن حزنه بالبكاء.. وإطلاق الدموع من محبسها.
وفى المقطع التالى أشار إلى (جماعة العراطيط) وهى جماعة تشكلتْ حديثا فى اليمن.. ومفرد الكلمة (عرطوط بمعنى عار) فماذا عن تلك الجماعة التى خاطبها الشاعر؟ قال لهم: رُمانكم فى يد الصحو.. ولكن هذا الرمان وهذا الصحو مُـهـدّد بالتشتتْ والتمزق نتيجة (صراع القبائل) ويختتم بالدعاء ل (بارق التيه) ويطلب منه ويرجوه أنْ (يـُـوجـّـه سراج التبصر) بمعنى البصيرة التى تمنع التعصب السائد بين زعماء القبائل.. وهو التعصب الذى يقود ويؤدى إلى المزيد من الصراع بين أبناء الشعب الواحد.. وفى المقطع التالى أشار إلى الذين يذبحون أبناءهم للضيوف.. وتوزيع أعيرة نارية فى شرايين دجلة.. وفى الختام قال: تصبحون على جثث للعمومة.
والشاعر لا يـُـفرّق بين (جـُـبة الشيخ وخوذة الجندى) حيث توحــّـد موقفهما وقمعهما للجماهير.. وعاد ليلقى تحية الصباح على صنعاء.. وهو منقوع فى (خمرة الموت) مع صهيل المحبين فى كبد التوق.. ويلقى التحية على منطقة يمنية اسمها (نخلان) وهو يترنح على شغف الجرح.. ومسترسل فى النحيب..ويرى بنات جازان على شرفة القلب.
وفى قصيدة إلى (بسمة) يتكلم عن الغزاة المحيطين باليمن (من اليمين ومن اليسار) وبالرغم من ذلك يرى العـُـشب أخضر.. والموت أخضر.. ولكن أقصى شمال اليمن يئن.. وأقصى الجنوب يحن.. والذى يتحدى طواحين الموت هو (فتى الأرجوان).
وفى قصيدة (أنزه مشوارنا عن بلوغ الأمانى) فإنه يخشى أنْ يكون مصير الشعب اليمنى (الفناء بسيف القبيلة) وبالتالى فإنّ السلاح المُـتاح هو (نــُـضمد بالشعر جرحى الحروب) وانتظار (عوالم يخضر إيقاعها فى بسمات الجياع) والسلام على الوهج السرمدى، بعد أنْ ((بـدّدنا أعمارنا كى تــُـضىء القصيدة فى جنبات المدى) وأنّ المسرات ((تــُـوقدها روحنا.. وزيتها من دم الشعراء.. والفقراء العرايا، السلام على الضوء، سلام على الحزن (حتى) يـُـكمل دورته.. وفى دم الثائر (رغبة) البوح ليـُـبسطه فى (عيون البلاد) وسلامٌ على الجوع.. وما أشرقتْ دمعة ((فى حنايا الحقيقة)).
أعتقد أنّ الشاعر اليمنى هانى الصلوى من الشعراء المُـتميـّـزين، بل إنه شديد التفرد بلغته الشاعرية وبإيحاءاته التى هى أكثر بلاغة من الإفصاح المُـباشر.. وهذه البلاعة عبـّـر بواسطتها عن مأساة شعبه اليمنى.. وأطماع المُـستعمرين الجـُـدد (من بعض الأنظمة العربية) وأنّ اليمن السعيد (فى التاريخ القديم) أرجعه الشقاء على (يد الأشقاء) إلى عصر الكهوف.