القاهرة 12 نوفمبر 2019 الساعة 10:38 ص
كتبت: سماح ممدوح حسن
رواية "الغرق، حكايات القهر والونس" للكاتب السوداني، حمور زيادة. تختزل مسرح الأحداث السياسية والتاريخية العالمية وتجسده على رقعة جغرافية أقل وهى قرية "حجر نارتي" الصغيرة.
تدور أحداث الرواية في السودان، أواخر ستينيات القرن الماضي في الفترة ما بين جلاء الاحتلال البريطاني والحكومة الوطنية التي تشكلت بعده ثم الانقلاب العسكري الذي أطاح بهذه الحكومة. تحكى الرواية عن حجر نارتى وأهله، تحكى عن الرقيق الذين تحرروا (رسميا) لكن لم يتحرروا مجتمعيا. ظلت العبودية كما هي بمفهومها وممارساتها لدى سكان حجر نارتى.
تبدأ الرواية عندما تستيقظ القرية على خبر الجثة التي طفت فوق مياه النيل، ثم تم استخراجها إلى الشاطئ (في إجراء كان قد اعتاده أهل السودان) وبعدها تتوالى الوفود من القرى المجاورة لحجر نارتى للتعرف على الجثة، وما إن كانت من لدى إحداها. من هذه الحادثة تنطلق الرواية في تعريف القارئ على شخوص الرواية، وأكثرهم من النساء، اللاتي كان لهن النصيب الأكبر أيضا من القهر.
أسماء عبيدنا لنا وأسماء أولادنا لأعدائنا.
في بداية التعرف على أسماء شخصيات الرواية اندهشت كثيرا لأسماء الرقيق بها (فايت ندو، معناه الأعلى من خصمه. وزين الذهب، عز القوم) فكان الأجدر كونهم رقيقا وكون المجتمع الذين يحيون به يعدهم فى مكانة أقل من مالكيهم، كان الأكثر منطقية أن يسمّو بأسماء عكس تلك الأسماء، اندهشت حتى عرفت حقيقة أن العرب جرت لديهم عادة تسميت أولادهم بأسماء ترهب أعداءهم؛ لكن أسماء العبيد لابد وأن تدل على رفعة مكانة مالك العبد. وقد نقل العرب تلك العادة إلى السودان حيث نزلوا فيها.
الحضور الطاغِي للشخصيات النسائية
رغم أن النساء هن الأكثر قهرا في تلك الرواية؛ لكن المفارقة أنهن تناثرن بالمساحة الأكبر فيها. إحدى تلك الشخصيات هي "فايت ندو" صاحبة المقهى الصغير؛ حيث يجتمع لديها الرجال لشرب العرق التي تصنعه وتحتفظ بسره لها فقط، كانت في القديم وأمها وقومها عبيدا، وبعد التحرر لم يتغير حالها كثيرا سوى ذلك الحلم الذي طالما حلمت به وانهار، أن تنجب طفلة وتصير طبيبة. بالفعل أنجبت "عبير" ثاني أبرز الشخصيات النسائية في الرواية التي نالت النصيب الأكبر من القهر.
هى فتاة، برع الكاتب في رسم شخصيتها، لم تكن فاتنة الجمال لكنها مفعمة بجاذبية غامضة لا يقوى أي رجل من ساكني القرية على رؤيتها إلا واشتهاها رغم أنها مخالفة لكل مقاييس الجمال التي اعتادوا عليها.
يعتدي على "عبير" جنسيا جميع الرجال بالقرية تقريبا، حتى هؤلاء الكبار ممن كانت تطلق على أحدهم لقب" خالي" لم تكن تعترض أو تقاوم أو حتى يبين على ملامحها الغضب، طوال الوقت تعبير وجها كما لو قُد من حجر، لا تأتي بأي ردة فعل على أي اعتداء، وكان ذلك من أهم تجليات القهر.
أيضا، تلك الحادثة الوحيدة التي أبدت فيها "عبير" ردة فعل على قاهرها. عندما اجتمعت النسوة عند الحاجة "الرضية" كي يسخرن من عبير وعدم معرفتها لأبيها وكون أمها حملت بها سفاحا، وعندما انفعلت عبير على الرضية، حرمتها الأخيرة من حلمها وحلم أمها الذي تعيشان من أجله أن تكون طبيبة، ومنعتها الرضية من الذهاب إلى المدرسة مجددا.
كانت "لعبير والرضية" أيضا واقعة هي القهر بعينه. عندما ولدت فايت ندو عبير، وأرادت أن تسميها على اسم بنت أخو الرضية "شاهيناز" لكن ثارت ثورة الرضية، وكادت أن تقتل الرضيعة وأمها حتى توسط زوج الرضية وأقنع فايت ندو بتغير اسم الوليدة إلى عبير. وتلك هى الوقعة الثالثة التي على إثرها انتحرت عبير، وأغرقت نفسها بالنيل. عندما عقدت هي وأمها والرضية اتفاقا لما حملت عبير، اتفق ثلاثتهم على أن تضع عبير مولودها وتأخذه الرضية وتعطيه للغجر في مقابل أن يحلوها من وعد كانت أمها قد أخذته على عائلتها، وهى أن ينزلوا في أرضها كلما جاءوا إلى حجر نارتي. لم تحتمل عبير كل هذا القهر الذي تقابله في صمت طوال عمرها، وهذه المرة ردت بما يضمن لها عدم التعرض للقهر مرة أخرى.
الجبروت بدلا من إظهار القهر
لم يقتصر القهر للنساء في الرواية على الإماء والرقيق والمعدومين، وإنما طال السيدات ذوات الحسب والنسب واللاتي لهن الكلمة المسموعة فى القرية. وكانت الحاجة "الرضية" نموذجا. تتصف تلك السيدة بشدة الطابع وسرعة الغضب والصرامة، لكنها وكما يتضح من الرواية لم تكن كذلك في بدء حياتها عندما تزوجت حديثا لكن بعدما اكتشف أن زوجها لم يكن بقوة الشخصية التي كانت ترى أن لابد للرجال من الاتصاف بها، فأخذت هي ذلك الدور وطورت ما يشبه آلية الدفاع عن نفسها ضد قهر خيبة الأمل في زوجها، وهى من أصبحت مسئولة عن كل شيء.
يتبين ذلك من الحوار بينها وبين زوجها عندما تزوجت "سكينة" من البشير، أخو زوجها. وكانت سكينة لم تقم بذلك العرف المتوارث "الشلوخ" أو شج الوجه، وهي العادة المرعبة والمدهشة في كون جعل هذا التشوه في الوجه من علامات الجمال، ولم يعترض زوج الرضية على تدخلها، أخبرته بأنها الوصية على الناس في تمسكهم بالأعراف (يتركون الشلوخ اليوم وفى الغد يتركون ختان البنات).
ينبوع حب وسط القهر
في شخصية متناقضة تمام عن بقية شخوص الرواية يظهر (البشير) يعشق البشير سكينة البدري منذ مولدها، تلك الفتاة الصغيرة التي ولدت آية في الحسن أحبها كل من رأى جمالها حتى أطلقوا عليها "مشاء الله" الحسن الذي تغنى به جميع أهل حجر نارتى ووصل صيتها للقرى المجاورة؛ مما دفع أعمامها للإسراع بتزويجها؛ لكن البشير تخاذل أمام المطالبة بالزواج من معشوقته بسبب الخلافات بين عائلة البدري والناير أهله وأهل سكينة. لكنه ظل على عشقه لها بعد أن تزوجت من آخر ولما توفى الزوج طالب بالزواج من الأرملة في عزاء زوجها على مسمع ومرأى من الحضور جميعا. وظل عشيقها وزوجها حتى توفت سكينة، ويظل البشير بقية حياته عاشقا لها يهذي باسمها في أيامه الأخيرة وقبل مماته.
سوف تبكى كثيرا مع أبطال الرواية المقهورين، سوف تلعن القهر الذي رسم على أوراق الرواية، وأيضا سوف تدفعك الرواية للبحث عن الأحداث التاريخية التي وردت في الأحداث وأيضا العادات والتقاليد السودانية المذكورة.