القاهرة 12 نوفمبر 2019 الساعة 10:19 ص
"ايميلات تالى الليل".. نموذجا
كتب: حاتم عبدالهادي السيد
الأدب الرقمى والرواية التشاركية، عنوانان جديدان على الذائقة الأدبية؛ لكنهما أصبحا حقيقة موجودة فى ظل التقنيات الجديدة للشبكة العنكبوتية الكونية للحاسوب، الذى حوّل الحياة إلى قرية عالمية صغيرة، وإلى غرفة كونيّة، نطلّ من خلالها على الوجود، وعلى ذواتنا القابعة فى مجاهل الدنيا ومدنها وقراها وصحاريها الممتدة، ولعل رواية: "ايميلات تالى الليل" للروائى المصرى ابراهيم جاد الله، والروائية العراقية كلشان البياتى، تكشف عن ملامح بعض هذا الأدب الذى أنتجته الحداثة، وما بعدياتها، عبر شبكات التواصل الممتدة، عبر أرجاء العالم.
إن رواية: "ايميلات تالى الليل"– فيما أحسب – تعد أول رواية عربية، تستخدم التقنية الرقمية ، لإنتاجية رواية تشاركية، لكاتبين جمعهما البعاد، على جهاز الكمبيوتر، فعبرا من خلاله الجسر والهوّة السيموطيقية العميقة، إلى همومنا القومية، ومشكلاتنا المجتمعية والذاتية، وأطلعنا على عوالم شتى ومواقف إنسانية كبرى، تنشد القيم الكبرى: العدل، والحرية، الحب ، وتستشرف مستقبلاً أفضل للإنسانية، يسود فيها الحب العالم، ونتغنى حينها، بالسلام الذى نتغيّاه للحياة.
إنها رسائل الحياة، عبر "ايميلات تالية آخر الليل"، والتى ترصد تاريخنا العربى الشامخ، بصورة معاصرة؛ حيث تكشف رمزية النضال والمقاومة، عبر التاريخ، والتى تحاول خفافيش العالم الإمبريالية أن تجتثها وتطمس زهوها وتشوه تاريخها التنويرى العريق؛ لكن بسالة المقاومة ،لازالت تناهض الاحتلال، بالكلمة والرصاصة، بالبرهان واليقين، بالمعرفة التى تقدّر قيمة الوطن، فتسال الدماء مهراقة، من أجل أن تظل أعلام الأوطان عزيزة شامخة كنخيل العراق ، وأهرام مصر الخالدة، وحدائق بابل الممتدة. إنها يوميات الحرب والمقاومة، كتباها بشكل تراجيدى، مأساوى، فنى، وبسرد صادق لا يحتمل تزويقاَ، أو رتوشاً؛ لتظل الرواية سجلاً توثيقيا للبلدين، ولما يجرى – الآن– فى الوطن العربى، فالثورة المصرية المغردة – على سبيل المثال- داهمتها قوى غريبة، طيور ظلام متربصة، لذئاب تهجّموا على جسد الوطن لافتراسه؛ لكن يقظة الشعوب كانت أكبر من سطوة المجنزرات، وأصوات الرصاص، وأزير الطائرات؛ حيث لن تضيع مطالب وراءها شعب يدعّمها، وقوى ثورية مناضلة: مدنية، وربما عسكرية – أحياناً– فالوطنية لا تشترى بمال، فهى فى الدماء والعروق، تنتظر لحظة الخلاص المناسبة ، لتختفى قوى الاستبداد للأبد كى تصدح الطيور بأصوات الغناء الوطنى الجميل.
لقد جاء الإهداء إلى رمز المفاومة العربية الكبرى الرئيس / جمال عبدالناصر، وإلى العراق فى كل تجليات محنته؛ ليدلل الإهداء – منذ البداية – إلى المقاومة الباسلة للشعوب العربية، التى عانت كثيراً ويلات الحروب، وتشرد مناضلوها الكبار، فى منافى الغربة؛ حيث القهر النفسى اليومى الحياتى الدائم، إنها المقاومة الباسلة، تقول:
(اهتمامي ينصب يا حسن في شؤون المقاومة, والمشاكل التي أجد نفسي منغرسة فيها من جراء هذا الغزو اللعين, لم أحضر أي نشاط ثقافي أو أدبي في العراق, ولم أدل بأي حديث صحفي سوى حديث واحد, تم حذف نصف ما قلته, من قبل مدير التحريرالذي خشي على منصبه وراتبه, تحدثت كالعادة عن حقي في مساندة مقاومة بلدي, وقلت بصريح العبارة إن كل ما أكتبه اليوم هو نتاج لكل ما ينجزه فرسان المقاومة على أرض الواقع).
إنها العراق، رمز القومية العربية: المقاومة، الحرية، العروبة، الإسلام، الثقافة، النور. وإنه الوطن، وإنها الحرية التى تئن تحت سطوة الظلم والمجنزرات، سطوة الإمبريالية المتأمركة، وأوربا المظلمة، أولئك الذين يتشدقون بالديمقراطية، والحريات، فإذ هم يرتكبون الجرائم الكبرى: يقتلون، ويذبحون، ويقطعون جذور العروبة، يهدمون الحضارة والتراث، ويشوهون شوارع التاريخ: المتنبى، أبو جعفر المنصور، الحسين.. ويطمسون تاريخ النضال الوطنى فى الفالوجة، ودجلة والفرات، وفى كل أرجاء الخارطة العربية، فما أبشع أن نشاهد سقوط الرمز العربى، للنضال والشموخ، والمقاومة: تمثال "صدام حسين "، الذى يشابه تمثال رمسيس، أو أبي الهول بمصر، وهما دليلا العظمة والشموخ والكبرياء للحضارة العربية القومية الإسلامية
المسيحية، الوطنية الباذخة.
إنها قصة: "حسن ومنار"، قصة العرب عبر التاريخ، قصة الكفاح والنضال الوطنى ضد الاستعمار، تقول: (عزيزى حسن، فى حسنه الباقى، أنا منار العراقية، التى جمعتنا أشياء أكبر من " الايميلات" والرسائل و"مسجات الموبايلات" التقينا فى أمور كثيرة، واختلفنا فى أمور عدة. لكن ما جمعنا معاَ هو نزعة التحدى والاصرار على مواجهة السلبيات ورفض الشائن دوماً ودون هوادة، منذ تلاقينا يوم شتاء بغدادى بارد وأنت تضع يدك على رأس صبية صغيرة على باب بيتنا فى أول زيارة له عندما كان ضيفاً على شقيقتى الكبرى، زميلتك بالجامعة المستنصرية. كانت فرحتى لا توصف وأنا أرى اسمك يلمع ويضىء في قائمة أسماء الشخصيات والهيئات الإنسانية والإعلامية التى أدانت واستنكرت موضوع اعتقالى، لأكثر من مرة ولم يفاجئنى الأمر، فلو لم تكن فعلت ذلك لقلت إنك لست حسن العربى المصرى ابن البلد الذى عايشته سنوات وسنوات فى بغداد، ولست حسن الذى ارتضى أن يشاركنا الحصار ويتحمل ويلاته ومآسيه على أن يغادر إلى وطنه الأم ويبحث عن البحبوحة فى العيش، وحيث كان ينتظره موقع علمى هام).. ( الرواية ص:13).
إنها إذن رواية حياتية، قصة أستاذ الجامعة المصرى، الذى كان قدره الدائم أن يعطى من أجل الآخرين، أن يعيش الحصار، بعد أن عاش ردحاً طويلاً فى العراق؛ حيث عمله فى الجامعة ، وحيث ترعرعت مياه دجلة والفرات فى شرايينه. كوّن عائلة هناك والتحم مع العراقيين، إلا أن الظروف أجبرته – مكرهاً – أن يغادر بغداد الى مصر؛ ليبدأ التواصل بعد ذلك – عبر تقنية الفلاش باك، واستدعاء الماضى القديم له فى العراق ولأسرته التى عاشت وكابدت ويلات الحرب، وعبر رسائل "الفيس بوك "، كانت معمارية هذه الرواية، الرسائل، الآهات، التى تتذكر الحنين القديم، الحياة فى العراق، وتسرد الحاضر من ويلات الحروب والثورات التى جاءت على الوطن العربى بالخراب والدمار.
إنها القومية العربية، التى ضاعت تحت سنابك الخيل ومجنزرات الاستعمار الأمريكى الغاشم ، وقوى الظلام التى تناصر التطرّف والعنف من أجل محو الهويّة والعروبة والتاريخ المجيد للأصالة، باسم العصرنة والعولمة والحداثة وما بعدياتها السوداء، ولا تنظر إلى النهضة والتنوير؛ بل تنحو إلى المحو والتدمير، محو الحضارات وتغليب ثقافة القطب الأوحد، الذى يسعى لنهب الثروات والمقدّرات، وإنهاك القوى العربية المسلحة فى: سوريا والعراق ومصر وليبيا، وغيرها؛ لضمان أمن الصهاينة وتفوقهم؛ ليتم لهم تنفيذ مخططاتهم الآثمة لتقسيم الوطن العربى إلى دويلات صغيرة، يسهل السيطرة عليها وتحويل وجهتها الحضارية والتاريخية، وتركيع حكّامها الطامحين إلى البقاء فى السلطة؛ لتحقيق سلطانهم الافتراضى، باسم الدين تارة ، والإمارة، والخلافة الإسلامية، والزعامة تارات أخرى؛ لذا ظهرت العنصرية الدينية والتمذهب، كإطار شكلى للاستعمار الذى يحاول تغليب الطائفية، واللعب بملفات الأقليات، وغيرها؛ لإحداث خروقات، وثورات هلامية. ومن ثم التدّخل والاستعمار الفكرى، والثقافى، والاقتصادى، والعسكرى، أيضاً.
إنها رواية عروبية قومية فى المقام الأول، جاءت على شكل رسائل، لتعلى من ثنائية: الحب والمقاومة، الظلم والقهر، الحق والباطل، النور والظلام. وتكشف زيف الحكام وخنوعهم ، وربما تآمر بعضهم ضد شعوبهم، بإعلاء النزاع الدينى الطائفى، وإبراز العصبيات والأعراق ، تمهيداً للغزو، والفوضى – غير الخلّاقة– التى تتزعمها الإمبريالية الأمريكية، وتدعّمها أوروبا التى تتشدق كل صباح ومساء بالديمقراطيات الزائفة، وحقوق الإنسان، فإذا ما تدخلت فى دولة رأينا استعباد الإنسان فى المعتقلات وسجون الاحتلال، التعذيب والقهر، والاغتصاب الوحشى للبراءة ، والانسانية ، والتفاخر بحجم الإنجازات فوق ركام الجثث، والمنازل المتهدمة فوق أجساد الأبرياء، والعجائز، والشباب، والأطفال، حتى الحيوانات لم تسلم من جحافل الدمار ، والإيذاء البدنى والنفسى لتدمير الدول وتركيعها لصالح إسرائيل، الكيان العبرى اللعين الذى زرعوه فى قلب العروبة؛ لينزّ كل يوم الدماء، ويمتصّ الحضارة، ويخرق نواميس الحريات، ويقضى على المعارضة والمقاومة الحرة الباسلة.
إنها الرواية التى تفضح عرينا العربى؛ بل عهر الحكام وخنوعهم للاستسلام والهزيمة، والاستعمار؛ ليتسنى لهم بعد ذلك أمر الحكم والرئاسة، من قبل الخونة، أعداء الدين والعروبة، حتى بعد انتهاء الحرب فى العراق، وزوال الاستعمار والغزو. رأينا الفتن والتناحر على المناصب، وتقسيم الأوطان حسب العرقيات التى نبشها الاستعمار، فهذا عراقى، وذاك كردى، وذلك شيعى، وها ذاك سنى، وذيّاك درزى، وتفشتت الملل والنّحل؛ لنعود إلى صراع المذاهب ، والعرقيات الطائفية، والإثنية؛ لنظل هكذا فى تناحر وشقاق مستمر، وضعف وهوان، مقابل علو مكانة الصهاينة؛ بل والمجاهرة بتهويد القدس أمام أعين العالم، دون وجود مقاومة، اللهم سوى الشجب والاستنكار والخنوع والركوع، لقوى الإمبريالية الغاشمة التى صنعها عجزنا العربى، وابتعاد الشعوب عن الحميّة الدينية، عن النخوة، عن الكرامة والثأر، لقضايانا المصيرية الكبرى، وتاريخنا العربى والإسلامى المشترك؛ بل والوحدة الوطنية لقوى الشعب المتمثلة فى: قوة المسجد مع الكنيسة، والمسلم مع المسيحى، دون اعتبار لديانات، أو مذاهب تفرّق وتشتّت، لا تجمّع وتوحّد من أجل مناهضة الاستعمار وإعلاء النضال الوطنى، والكفاح العربى المسلح المشترك.
إن الرواية تكشف عوراتنا التاريخية، فما يحدث لنا الآن كان نتيجة لتمزيق عرى الوحدة، وغياب القومية، وابتعادنا عن القيم الإسلامية والحضارية والإنسانية التى تربينا عليها، وعندما يفقد الإنسان ذاته، يسقط تاريخه، وتضعف قوته ، وتقل شوكته وبأسه، فيهون على الناس، "ولقد أكلنا، يوم أكل الثور الأبيض"، عندما سقط الرمز، شنق صدام، الذى يشبه "شنق زهران " عبر محاكم التفتيش، وشنق "عمر المختار"، وسقوط تمثال أبو جعفر المنصور، وهدم المعابد التاريخية والتراث، وتحطيم تمثال أم كلثوم فى المنصورة، وقتل "القذافى" داخل ماسورة، كأن ليس ثمة ضوء فى نهاية النفق العربى المظلم الطويل!! . هى رواية المعاصرة ، الحاضر الآنى الذى نعيشه للضعف العربى الكبير، الممتد من حضرموت إلى حلب وبغداد، ومن اللاذقية إلى مصر، ومن وهران إلى السودان، ومن تونس إلى اليمن، ودول الخليج، والسعودية، إلى ذواتنا العربية المهزومة المنكسرة التى يحاولون تركيعها كالحكام، لكن أنىّ لهم ذلك، فثورات الشعوب تغلى فى القلوب أولاً، ثم تنفجر فتأكل الأخضر واليابس، لتزعق الحرية الحمراء / البيضاء، بالحب والسلام: "دعوا السلام ينمو فى الأرض، لتطير الحمائم فى سلام ".
لقد حاولت الرواية عبر رمزية التشاركية – على مستوى الكتابة– أن تعلى قيمة الرمز للتعاون العربى من جديد، للحب العروبى الحضارى، الكونى، للعرب، للعروبة الضّالة حول المراعى العربية المظلومة من شياه العالم؛ بل الذئاب العنصرية التى تحاول قضم اللحم والعظام ، وقطف الأزهار العربية خلسة، ومجاهرة ونهب الثروة، وتعبيد الكيانات العربية، وتركيع الشعوب، وتدمير وتشويه التاريخ؛ لكن حركات المقاومة والنضال العروبى المشترك ستظل ، ولو على المستوى الثقافى، لتناهض أخطاء الساسة وجبروت الاستعمار العابر للقارات والشعوب، عبر شركات الوهم ، والعولمة الغريبة، على صحارينا العربية الشاسعة.
إن تشابك ما هو ثقافى، بما هو سياسى واقتصادى وسيميولوجى، ربما – كما أرى– يستشرف لنا المستقبل النهضوى للشعوب والدول، والذى تسعى له الأحزاب والمنظمات الإنسانية التى تنادى بحقوق الإنسان، لا هيئات الأمم المتحدة، ومنظمات الأمم المشبوهة التى تزعق بالديمقراطية ،ونبذ العنف والاستعمار ، وتعطى الحق للشعوب لتحديد مصيرها وتوجيه دفة حكمها من خلال المنظومة العالمية، وهى فى الأساس تمول الإرهاب والإرهابيين، وتؤلب دولاً عربية على جاراتها، وتناصر العدو الأكبر الصهيونى، الذى يجب اقتلاعه من الخارطة العربية، وقذفه فى البحر كذلك، ولن نخشى مقولات معاداة السامية، فنحن ساميون، من سلالة سام بن نوح أيضاً؛ لتحيا شعوبنا فى سلام. ثم أليست إسرائيل كيانا غاصبا لدولة فلسطين؟ فكيف تتشدقون بالحرية وتساندون المغتصبين، عبر ثنائية الازدواج ؟ تنادون بالديمقراطيات المزعومة، عبر دكاكين حقوق الإنسان المشبوهة الغريبة والممولة من كيانات تضمر العداء لكل ما هو عروبى وإسلامى!!
إنها ازدواجية المعايير التى تكشفها الرواية، بفنية عالية، من خلال الرمز، حركات الدفاع العربى المشترك، الكيانات الحزبية القومية العروبية، التمويل الشخصى، كتمويل "زينب سلمان" العراقية، لأهلها، للمقاومة، من أجل طرد الاستعمار الأمريكى الغاصب، التترى الهمجى، الشهوانى، اللاإنسانى، فى سجون أبوغريب، والبصرة، والموصل، وفى كل المعتقلات الإمبريالية الصهيو- أمريكية ، كذلك.
كا تتعرض الرواية للخونة العرب الذين ساعدوا الاستعمار لتوطيد ملك شخصى زائل لهم، أو من أجل المال السياسى القذر، على حساب الأهل والأصدقاء؛ بل والأشقاء العرب، كما تعرضت الرواية – عبر السرد الباذخ "للتصفيات الجسدية" التى طالت سياسيين ومثقفين وشعراء وكتّاب وسياسيين حاليين، ذكرتهم بالاسم المجرد، علانية، أمثال: الشاعر حميد سعيد ، والشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، والشاعرة ساجدة الموسوى، ورعد بندر، والراحل رعد عبد القادر، ولطيفة الدليمى، وغيرهم. وامتدت الاتهامات - بتهمة حب الوطن- الى الأطباء والسياسيين؛ بل طالت الاتهامات والمحاكمات الموتى الراحلين أمثال الشاعر الكبير: بدر شاكر السياب؛ حيث تم اغتياله بتهمة "حب البصرة، وأهلها"، كما تم اغتيال الخليفة أبي جعفر المنصور - من جديد - بهدم تمثاله، وهدموا تمثال ابن سينا، والفراهيدى، وعشتار، كما تم اغتيال مهندسى البناء، باسم فتاوى المرجعية. ولم يتبق إلا حفارو القبور لإزالة آثار القتل والموت وإخفاء معالم جرائمهم البشعة اللا إنسانية أيضاً.
إنها الرواية التى تحكى مأساة العراق، فبغداد أصبحت ساحة للعويل والبكاء تقول – ربما بخطابية زاعقة تشبه الصراخ: (بغداد قد أصبحت صورة جميلة، وذكرى خالدة.. واقعها يدعو إلى النواح والعويل، فإذا كان العشرات من الشيعة يخرجون إلى الشوارع، ويلطمون على الإمام الحسين شهيد كربلاء، فى كل ذكرى ومناسبة، أشعر أنى أحتاج أن ألطم على بغداد يومياً، فشوارعها موحشة، وبيوتها موحشة، وحدائقها جرداء، ودجلة لم تعد عروس الأنهار، وجسور بغداد أكلتها سرف الدبابات، وعربات همفى. أترانى توقفت فى إقناعك أولاً بالعدول على أى فكرة للسفر إلى بغداد).. ( الرواية ص:149-150 .
ويستخدم الراوى/ الراوية اقتباسات شعرية ، ومواقف عبر التضمين؛ لتأكيد وحدة النضال القومى، فهو فى ليبيا يجتمع مع المسئولين، ووليم فى حلب يناضل، وزينب تدعم بالمال، ومنار حزينة على اختفاء مروان وانقطاع أخباره، وكلنار تناضل ووالدها عم رءوف الكلدانى ، وغيرهم، والكل فى ترقّب، خوف، قلق، جذع، على مصير العراق، ومصير أولادهم الذين لا يعرفون ماذا يخبئ لهم المستقبل بعد ويلات الحرب، وما بعدها، وظهور حكومة المالكى - كما تذكر الرواية - والتنازع الطائفى على الرئاسة والوزارات، والتدخلات الإيرانية الشيعية، والمؤامرات والمال الذى يصب من أجل قتل المعارضين، والعراق الجديد / الغريب المناضل / الضبابى، كغيره من البلدان العربية. ومن الاقتباسات الشعرية نقرأ ما أوردته من شعر العراقى / محمد جميل شلش؛ حيث يقول عن اغتيال المتنبى، وإبادة القبائل الأصلية عبر التطهير العرقى، والتصفيات الجسدية:
يا أبا الطيب سامحنا
فماذا سنقول؟ / وعلى أي قوافيك نميل؟ /
وبأي من مواضيك نصول؟
فالميادين خلت / إلا من الروم / وأحفاد المغول /
وبنو شيبان ماتوا / وبنو حمدان ماتوا / وأصيلات الخيول.
إنها رسائله كذلك إلى منار، ورسائلها أيضاً إلى حسن، عبر جسر العروبة، الإنترنت، وعبر الرسائل القصيرة للمحمول، وتقنيات الحداثة، التى تنقل لنا كل مجريات العالم، ونحن نجلس بهدوء فى غرفنا الكونية، نستطلع أحوال العالم، ونتشارك بالكلمة والنضال فى مصير ومستقبل عالمنا العربى الافتراضى الممتد.
إنها المرأة العراقية المقاومة، مع آخرين، تنشد الخلاص، الحرية، وتتصدى بالكلمة والقلم، بينما غيرها يقاوم بجانبها بالبندقية والرصاص؛ لتحيا العراق حرّة أبدية، تقول: ( وحدى مع أسماء أخرى، أتنسم عبق كتاباتهم فى مواقع الإنترنت، نمنح للقلم حيوية الرصاص، والعبوة ، والآربى جى).. ( الرواية ص: 162).
إنها تحكى مأساة العراق، وتشير إلى المشاكل الكثيرة هناك / كسعى الأكراد لإقامة دولة لهم فى السليمانية، وتكريت، وأربيل، ودهوك، وكركوك وغيرها؛ لتشير إلى التشاكلات السياسية والاقتصادية والثقافية المعاصرة، وكأنها رواية توثيقية، لا رواية رسائل فحسب، كما وصفت؛ بل هى رواية الواقع الراهن كتبت بقلمين: مصرى وعراقى؛ لنتشمّم عبرها رحيق العروبة، ونضال الشعوب ضد قوى الاستعمار الخارجى، والحكومات العربية المستبدة أيضاً، تقول: (أسافر وأنا أجهل أنيكونمسموحالي اجتياز الحدود, وتجاوز نقطة العبور إلى السليمانية التي انفصلت عن الدولة المركزية في بغداد, وأصبحت إقليما منفصلا, ويسعى الساسة الأكراد إلى جعلها دولة مستقلة مع مدن كردية أخرى كأربيل ودهوك, ومحاولتهم لضم كركوك إليها, أظن سأحتاج إلى من يكفلني من مواطنين أكراد, إن لم يعترفوا بالتقارير الطبيبة, التي أحملها والتي تؤيد زيارتي لمريض راقد في مستشفاهم, تم إحالته من قبل طبيب كردي في الموصل).
كما تشير الرواية لمشاكل اجتياز الحدود، جوازات السفر، الهوية العرقية، التوجس/ الاعتقالات والتصفية الجسدية، المقاومة، الخنوع والخوف من الاعتقال، تنازع القوى التى تنشد السلطة ، والكراسى الزائفة على حساب الوطن، وغير ذلك.
إنها صور الدمار الثقافى والاقتصادى للدولة، صور التمزق ومحو الهوية، صور الصراع العربى / العربى، العربى / الغربى، صور لا نستطيع رؤيتها ونقف صامتين. إنها صور آلة الحرب الرهيبة التى لا تبقى ولا تذر، وأكثر منها بشاعة: "صورة المتكالبين على النيل من كعكعة الوطن الشائهة"، والمتخاذلين من المثقفين والأدباء، تقول: (أدباء الرافدين يا حسن, مثل أدباء النيل والشام واليمن, لا يختلفون في شيء, سواء أن هناك من حول قلمه إلى بندقية وسيف, وهناك من برّد رأس قلمه؛ كي لا يكتب حرفا لا يقوى على حمله, وهناك من وجه سهم قلمه في قلب الوطن, وأصاب أحشاء أبنائه).
كما تعكس الرواية اللحمة الوطنية العميقة للشعبين: العراقى والمصرى، عن طريق المصاهرة ، فنصف العراقيات متزوجات من مصريين، والعكس كذلك، كما تعكس الرواية صور الشتات العراقى، كلاجئين فى دول العالم الفسيح، بعيداً عن الوطن، وتهمتهم الوحيدة حب الوطن حتى النخاع، كما تعكس الرواية يوميات المجتمع المصرى.. كرة القدم، تفاصيل المصريين فى شهر رمضان، الندوات والمؤتمرات، أمسيات الشعر المقاوم، وأحاديث المقاهى السياسية والثقافية، أخبار الثورة والمعارضة، الحديث عن المسرح والفنون، وتحميل الرواية بقصائد كاملة لشعراء وكتّاب صريين وعراقيين وعرب، وصور للقاءات تلفزيونية وإذاعية، وقراءات للواقع المصرى والعراقى المعاصرين، عبر رسائل الانستجرام، والفيسبوك، والماسيجات من التليفون المحمول، وعبر تويتر وغيرها، إلا أن "الفيس بوك" هنا، هو البطل الرئيس فى الرواية، والجسر الذى يصل القوميات، وكأنه معول المقاومة الحديث، التواصل الثقافى والحضارى للشعوب مقابل الشركات الإمبريالية والأوربية العابرة للقارات التى تريد السيطرة على مقدرات عروبتنا النائمة، العاجزة التى بدأت تفيق على صور الدمار الذى حدث فى كل ربوعنا العربية، بما حمل مسميات: الخريف العربى، لا ربيع الثورات؛ لكن المقاومة مستمرة، والغناء بالحرية يصدح، والشعوب اتنفضت، ولازالت تترقب ثورات تحررية كبرى فى المستقبل القريب.
إنها الكلمة المقاومة، وكما قال الشاعر: "إنك إن تكلمت مت، وإن صمتت مت، فقلها ومت"، لذا قالتها، وكتبت، وتحدّت الغاصبون والخونة، جاهرت بالرفض وبقول: لا؛ لتبقى المقاومة العربية صامدة إلى الأبد، تقول: (أقول كلمتى لأبقى أو أموت، وأدون عبورى فى الحياة بمواقف، لا أكتفي بمغامرة العيش بين القاتل والمقتول، إنما أضىء الكلمات بكتابات، وأكشف عن صورة الوحش المتربص بى، المتشهّى قطف رأسى، الذى أعلنه كل صباح، للريح والشمس، واحتمالات القتل... لا شىء أشد توحشاً من وحدة امرأة فى بلاد القتل والمقابر، والأشلاء، وفى بغداد تحديداً).. ( الرواية، ص: 87 ).
إن الرواية تتماهى بأنها رسائل عبر الإنترنت بين رجل مصرى وامراة عراقية، وآخرين، إلا أنها تتعدى الحدود، إلى مروان، والدكتورة هاديا، وتنتقل بأحداثها من ليبيا إلى سوريا إلى العراق، والأردن، ومصر، وفلسطين، ودول الخليج. وتعبر آفاق الوطن العربى الكبير؛ لتنقل لنا عبق المقاومة والصمود العربى الكبير للشعوب، فى مقاومة الاستعمار والظلم والاضطهاد ، من قبل أعداء الحرية، والنور، والسلام الإنسانى الكبير الذى تنشده المقاومة السلمية، المقاومة بالشعر، بالسرد، بالحروف، بالنفس الهائمة عبر ردهات الحب ،والتواصل الإنسانى بين الشعوب، من أجل عودة الوحدة العربية، والقومية العربية الإسلامية، ونشر الحب والسلام والأمن، بين ربوع الوطن، وفى أرجاء الكون الفسيح.
إنها الرواية المأساة، تسطّر نهايتها / مصيرنا العربى، عجزنا، باختطاف منار واعتقالها ومحوها من الوجود؛ لأنها الرمز العنيد، الزاعق، المجاهر، للمقاومة، والبذرة التى ترويها بروحها، روحنا، وبمساعدة كل الأطراف العربية، بالأقلام المقاومة، بالرفقاء، والأشقاء الذين يعلون نضالهم الوطنى على كل المصالح الخاصة. كما تجىء النهاية مقدمة لبداية أخرى، لحياة جديدة للإنسانية، تكشف الزيف الأمريكى، وسياسة الاستعمار؛ حيث السؤال كان دوماً "بوابة للمعرفة"؛ لكنه أصبح فى الزمن الأمريكى، بوابة للألم، والعاقبة للمقاومين).. (النهاية ص: 213 ).
إنها رواية الذات، ذواتنا العربية المكلومة،عبر بوابات الضعف، والديكتاتورية، والاستعمار والقهر، والحروب، والثورات التى تؤطر للخريف العربى الممتد، وتظل المقاومة مستمرة لعودة الربيع السعيد، لوطننا العربى الحزين، والجميل السامق أيضاً.