القاهرة 05 نوفمبر 2019 الساعة 09:49 ص
قصة: ياسين معيزو ـ المغرب
العاشر من كانون.. حيث يعلو الصراخ عند أول منفذ للحياة.. لا أستطيع التذكر أين كنت قبل ذلك.. كانت أمي تقول: كنت هنا"، في إشارة إلى بطنها.. أبتسم لعفوية جوابها وأقبله على مضض.
لا بد أن حياتي السابقة كانت خارج اعتباراتي، لذا لم أتذكر أي حدث أو صورة عابرة يمكن أن أكون طرفا فيها أو مشاركا في صنعها، أو حتى كومبارس رخيصا تحت رحمتها. تفاجأت بعد أن قطع الحبل السري أن اسمي زياد، وأني منذ اليوم محكوم بالعيش في هذا العالم الجديد عني تماما.. عشت محروما من نعمة الاختيار.. تكلفوا بكل شيء بدل عني؛ اسمي .. لوني.. شعري الأجعد.. وعندما صلب عودي لم ينم شعر ذقني.. علمت بعدها أن جدي كان أمردا.
عدت إلى المنزل متأخرا، صرخت أمي بوجهي:" عد إلى الجايحة التي جئت منها".. أغلقت الباب من خلفي وأنا أفكر في تلك "الجايحة" التي علي العودة إليها مرغما. سرت ليلتها متسكعا بين المطارق والسنادين .. سامرت الكلاب والحمقى .. حاورت النجوم والخفافيش، ظلت تلك الكلمة تراقص خاطري ولم تبرحه، للحظة خلت أنها مأوى غير المرغوبين بهم، كان يبدو ذلك جليا وأنا أسأل مرة أستاذ التاريخ عن المكان الذي حل منه هذا المستوطن لفلسطين، بسخرية أجابني: من كل جايجة بهذه الأرض يا ولدي". لم يغير جوابه بالنسبة لي شيئا، غير تأكيده على أن الجايجة مبعثا للسوء ومصدرا للشرور.
كانت الحياة بالنسبة لي أشبه بمحاصرة صرصار بإحدى زوايا حمامنا.. عملية غير مكلفة .. وأنا الماسك زمام أمورها. ما فتئت الحياة تنفلت مني ببطء مقيت .. بدأ ذلك بعد أن تحصلت على دبلومي الجامعي، رفضت طلب أمي في أن أشتغل مع خالي حسان بالمطعم.. رفضت لكوني لا أزال غضا في عالم الخريجين، وأن دبلوما أنفقت عليه شقاء عمري حتما سيشفع لي بدخل قار، على قلته، يسعفني في الاستمرار في العيش بهذا الكنيف اللئيم.
خفقت في السنة الموالية في الحفاظ على أول تجربة حب أخوضها.. وجدت في مطعم خالي عزاء ومذهبا لإخفاقاتي المتكررة.. غسل الأطباق، تحضير السلطات، إعداد الشاي.. وغيرها.
يجافيني النوم.. يسخر مني الليل .. أظل تائها بين دماسة ظلمته.. يغريني السكون فأستسلم له.. تتقاذفني صور مبعثرة.. أتعرف على بعضها.. وينفلت الباقي مني كحبة زئبق .. تغازلني الأسئلة.. أظل مشدوها لجرأتي:" أحقا كان يمكن أن أكون في موضع آخر غير الذي يحجبني الآن عن النظر.. ما الذي كنت سأكونه لو رزقت بين أسرة غير أسرتنا التي لا تقدم لأبنائها شيئا غبر الدعاء؛ "الله يرضي عليك".." الله ينتقم منك"؛ كانت أمي ستحظى بعناية تليق بها وهي تضعني بال"كلينيك" .. لم تكن لتتألم لولادتي مرتين
.. ليلتها... واليوم .. وما كانت لتصفعني كف جارتنا "خدوج" الخشنة، كانت الصفعة المبكية إيذانا بحياة محفوفة بالعقاب، لم أكن لأستوعب حينها أنه درس في الأنثروبولوجيا.
قبل التاسعة مساء يكون بيني وبين إخلاء المطعم صحنا.. أفركه بسرعة وأسدل فوقه مياه الصنبور.. أقترب من البيت.. أسمع نحيبا يصدر من الداخل.. ألج ببطء عتبة الدار.. أرمق زوجا أحذية صغيرة.. إنها أختي.. ألقي سلاما على عجل، وأمر إلى الغرفة الموالية.
لم أكلف نفسي عناء التساؤل، فلن يكون غضبها هذه المرة مختلفا عن سابقه، وما أن يبزغ الصبح حتى نسمع وقع أقدام المهدي بحذائه العالي الضخم الذي يوقظ الموتى من سباتهم، يشكو ضنك الحال، وطلبات أختي التي لا تنتهي... تصرخ بوجهه ما إن يلفظ اسمها:" إذا لم تتحمل.. طلقني". ثم تنتهي الحكاية بالعودة إلى منزلهما.
اقتربت "المربعانية".. وقل الإقبال على المطعم بشكل كبير، ما جعل فرصتي في الاستمرار بالعمل شبه منعدمة، تركت المطعم.. ورحت أبحث لنفسي عن مصدر آخر يساعدني على الاستمرار في الزمن.
في الزوال كنت على موعد مع ممثل إحدى شركات النسيج الشهيرة بالمدينة، لم تدم المقابلة طويلا ليدعوني إلى إيداع سيرتي الشخصية فوق طاولة على مقربة من الباب، تركتها حيث ما تم، وعدت إلى البيت أجر أذيال الهزيمة، وأحمل خيباتي المتواترة...
مرت ليلتي تلك على غير عادتها.. لم أتناول عشائي بالشهية المعتادة، منذ أن كنت شغالا بمطعم خالي .. لم تراودني كوابيس العطالة، ولم أضاجع الحسناء الإسبانية بإحدى مواخير "كوستا برافا " الساحلية .. لم توقظني حادثة الزورق المطاطي مفجوعا.. ولا تأسفت لتضييعها بوصلة الطريق.. وحين يبزغ نور الصباح، لن أكون عالة على أمي، ولن أصير بعدها مساحا للأطباق بمطعم خالي، وحتى أختي، سأكون بمنأى عن صراعها المستمر مع "المهدي" والزمن؛ لكوني سأعود إلى الحياة التي حلمت بالعودة إليها، حتى وإن لم تكن مختلفة عن سابقتها، إلا أني لن أكون هذه المرة مرغما.