القاهرة 22 اكتوبر 2019 الساعة 10:27 ص
كتب: أحمد مصطفى عمر
يناقش الناقد الأردني فخري صالح مشكلات الرواية العربية ويتأمل هذه الظاهرة الجمالية التي عرفها العرب قبل ما يقارب القرن والنصف من الزمان ومع ذلك ما تزال صالحة لإثارة الدهشة وطرح الأسئلة، فظاهرة ما يسمى بالرواية الجديدة ناقشها الكاتب في كتاب "في الرواية العربية الجديدة" الذي صدر عن دار العين للنشر والتوزيع بالقاهرة عبر تأمل عدد من الروايات المميزة في طرائق سردها عن الرواية الكلاسيكية.
وقد اختار الكاتب عددا من النصوص التي تنتمي إلى جيل الستينيات بالأساس، رغم أن كثيرا من نقاد الرواية العربية، باتوا يقصدون بالمصطلح الروايات التي كتبت في خلال العشرين سنة الأخيرة، إلا أن الكاتب يبرر سبب اختياره لعقدي الستينيات والسبعينيات كونه جيلا أحدث قطيعة مع الأجيال التي سبقته إلى الوجود والكتابة.
ويدرس المؤلف في الفصول الأولى بعض الروايات التي بدأ كتابها الكتابة في الأربعينيات ونهاية الخمسينيات؛ لأن هذه الروايات إرهاصة الرواية العربية الجديدة التاريخية. ويحاول المؤلف أن يبين من خلال القراءة النصية كيف أن "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح و" البحث عن وليد مسعود" لجبرا إبراهيم جبرا، تمهدان لأفق من الكتابة الروائية العربية تحقق في أعمال صنع الله وجمال الغيطاني وإلياس خوري وإبراهيم الكوني وسليم بركات وأعمال غيرهم.
ويمثل هذا الكتاب إضافة نقدية مهمة في طريق دراسة السردية العربية رغم مرور سنوات على صدوره، فتلك الدراسات المعمقة في أعمال الطيب صالح وجبرا إبراهيم جبرا وإدوار الخراط وإلياس خوري وسليم بركات وإبراهيم الكوني وإميل حبيبي وجمال الغيطاني، لا تزال لافتة بجملتها النقدية المتينة والمكثفة..
وإضافة إلى هذه القراءات النصية لأعمال روائية بعينها، يضيف الكاتب قراءتين مسحيتين لأعمال إميل حبيي الروائية وبعض أعمال جمال الغيطاني بغرض التعرّف إلى أشكال استخدام السرد التراثي، والمادة التراثية في الرواية العربية الجديدة. ويضمن فخري خاتمة الكتاب قراءة سجالية لكتابي الخراط "الحساسية الجديدة" و"الكتابة عبر النوعية" اللذين ينتميان إلى أفق الأسئلة التي يسألها هذا الكتاب ويبحث لها عن إجابات لم تكن شافية على أية حال.
يعتبر صالح أن تعبير الرواية العربية الجديدة يثير إشكالية اصطلاحية تتعلق باستعارة هذا المصطلح من بيئة ثقافية أخرى، ما يوحي بانتساب ما يسمى بالرواية العربية الجديدةإلى الرواية الفرنسية الجديدة التي ترجم بعض من نصوصها إلى العربية خلال الستينات. ويؤكد الكاتب في هذا السياق أن التقاطع في التسمية لا يلحق ما يسمى بـالرواية العربية الجديدة بنظيرتها الأوروبية؛ لكنه يقيم تشابكاً على صعيد الرغبة في انتهاك الشكل والتعبير بصورة جديدة عن العالم، أي بصورة مختلفة عن تلك الطريقة التي عبرت بها الرواية الواقعيةعن العالم. ويتابع فخري صالح بأنه فيما انتهكت الرواية العربية انتهك شكل الرواية الغربية، بتنويعاتها الواقعية والوجودية وصيغتها الكلاسيكية أيضاً، عبر إلغاء حضور الشخصية الروائية أو إلغاء الحركة في الزمان أو جعل المكان الشخصية الفاعلة في النص الروائي؛ أما الرواية العربية الجديدة فحملت الرغبة ذاتها لانتهاك شكل ثابت تمثل، في أوج تشابكه وتعقده، في عمل نجيب محفوظ، وبصورة خاصة في ثلاثيته.
يضيف المؤلف إن الرواية العربية الجديدة أخذت بعض ملامح الرواية الفرنسية الجديدة؛ لكنها لا تنتسب إلى الأفق نفسه، فإذا كنا نلمح في روايات آلان روب غرييه، انتساباً في طريقة النظرة إلى العالم، إلى الفلسفة الوضعية الأوروبية، أو محاكاة ساخرة، بصورة غير مباشرة لهذه الفلسفة، فإن صنع الله ابراهيم وإدوار الخراط وإلياس خوري ينتسبون إلى نظرة للعالم تكاد تكون مغايرة تماماً ففي الرواية العربية لا توجد نزعة تشييئية إلا بمقدار ما تخدم هذه النزعة الرغبة في التعبير عن عالم مفتت لا يقين فيه.
وبالنظر إلى الروايات التي أنتجها الكتاب المنتمون إلى ما يسمى بالرواية العربية الجديدة، تؤكد أن النزعة التشييئية في هذه الروايات ذات طابع توظيفي وليست كلية وصفية، ويستدرك الكاتب ليعتبر أن ثمة استفادة بعيدة من عالم الشيئية؛ لكن هذه الاستفادة لا تجعل من الرواية العربية الجديدة محاكاة للرواية الفرنسية الجديدة لأن غرض الرواية العربية الجديدة وصف تشوش الرؤية والقبض على تماسك الأشياء وهي تنهار، بينما يتلخص غرض الرواية الفرنسية الجديدة في وصف الأحاسيس الإنسانية وقد تشيأت، وفي وصف غياب الإنسان واغترابه في منظومة الحضارة الرأسمالية الغربية المعاصرة.
يشير فخري صالح إلى أن صفة اللايقينية، مضافة إلى صيغة الانتهاك الشكلي، تمثل سمة أساسية من سمات الرواية العربية الجديدة حيث يدخل اليقين والاعتقاد بالقدرة على وصف العالم يسقط نعت "الجديدة" عن الرواية، وتدخل هذه الرواية في سياق النص المحفوظي، ممثلاً في الثلاثية وبداية القاهرة الجديدة ونهايتها وتتحقق نزعة اللايقين عبر طرائق السرد، وأشكال الرواة، وصيغة السرد المتشككة، واللغة غير القاطعة، والأحكام النسبية التي تشكل أساس نظرات الرواة في العالم، ويضرب المؤلف مثلاً على ذلك في أعمال الخراط الروائية عموماً، وروايته "رامة والتنين" خصوصاً، معتبراً أنها تمثل الرواية الجديدة خير تمثيل. فاليقين فيها غائب، والراوي يتساءل دائماً عن إمكان حدوث ما حدث، فالحدث غائم؛ لذلك يتشكك الراوي بحدوثه ويتشكك بما رواه هو عن الحدث.
يشدد المؤلف، على أن الرواية العربية الجديدة ليست متجانسة على الصعيد الشكي، بل تضم طيفاً كاملاً من الطموحات الشكلية والتجديد في البناء الذي يطاول طريقة تقديم الشخصيات وعلاقة الزمان بالمكان وأشكال الرواة وزوايا النظر المعروضة في الرواية وتدخلات الكاتب وشروحاته التي تبغي كسر وهم مطابقة الرواية للواقع، وبهذا المعنى فإن البحث عن قواسم مشتركة بين النصوص التي نسميها نصوصاً روائية عربية جديدة يقع في دائرة النظرة إلى العالم» أو «رؤية العالم، ومن ثم فإن العناصر الشكلية لا توفر شخصية متميزة لهذه النصوص عن غيرها من الروايات العربية المكتوبة على غرار كلاسيكي؛ فما يميزها ويكسبها تشابكا وتضافراً وانضواءً تحت راية التقسيم نفسه تأكيدها أن العالم نفسه لم يعد متجانساً.