القاهرة 14 ديسمبر 2019 الساعة 10:08 ص
د. هويدا صالح
إن سؤال الهوية لا يتم طرحه إلا حين تكون الأمم في حالة من الانكسار والتراجع ، و لا ينشغل الناس غالبا بسؤال هويتهم إلا حين يشعرون بالضعف والتهديد على ضياع هذه الهوية ، والذي يراجع التاريخ يتشكف له أن الأمم و الشعوب تزداد انشغالا بتاريخها وماضيها حين يكون حاضرها مأزوما ومستقبلها غير واضح ، فسؤال الهوية حين يطرح يشير إلى أن إسهام هذه الأمة في الحضارية الإنسانية في تراجع ، لذا أتحفظ كثيرا حينما أطرح ذلك السؤال ، هل حقا نحن كعرب نخشى على هويتنا من الترجمة من اللغات المختلفة إلى العربية ، ونشعر بالتهديد إزاء ما يتم ترجمته على هويتنا العربية والإسلامية ؟! هذا التساؤل يقفز إلى الوعي حينما أقرأ عنوان المحور :" الترجمة في مواجهة الهوية " وكأن ثمة تهديد الهوية العربية والإسلامية حينما نقوم بترجمة العلوم والفنون والآداب المختلفة إلى لغتنا العربية.
إن الهوية طبقات كما أشار المفكر المصري طارق حجي، فلا توجد فالهوية المفردة الخالصة إنما هي هوية مسطحة لا قيمة لها ولا عمق ،فأنا كمصرية هويتي عربية إسلامية فرعونية شرق أوسطية بحر متوسطية ، ولا تتعارض واحدة من هذه الهويات مع الأخرى ، ولا تلغي طبقة ما من الهوية بقية الطبقات ، فلا تعارض مطلقا بين كوني عربية مسلمة وكوني فرعونية أيضا ، هذا مما يزيد الأمم زخما وعمقا، إذن لا تهديد ولا خوف من وضع استراتيجية ممنهجة تقوم بترجمة الفنون والآداب والعلوم ونقلها للغتنا العربية ، لا تهديد على هويتنا ، وليست الترجمة في مواجهة الهوية .
وحينما يتم الانفتاح على الثقافات المختلفة ،يثري هذا الانفتاح الهوية والثقافة ،فنحن في ظل العولمة والفضائيات والسماوات المفتوحة لم يعد مناسبا لنا كعرب أن ننغلق على ذواتنا وأن ننكفئ على هذه الذوات وإلا سنتخلف عن ركب الإنسانية ، فلا مكان لأمة لا يكون لها إسهامات حقيقية في المسيرة الإنسانية.
إذن فكرة المواجهة بين الترجمة والهوية لم تعد مطروحة ،لأننا بحاجة لأن نمد جسورا بيننا وبين الآخر ،فالأنا ليست بقادرة على أن تعيش بمعزل عن الآخر ،والترجمة هي هذه الجسور التي يجب أن تمد بيننا وبين الآخر بترجمة آدابه وفنونه وعلومه .
ولا يختلف اثنان على أن الأدب هو المرآة الحقيقية للمجتمعات والشعوب ،فعندما نقوم بترجمة الأعمال الأدبية من لغة أجنبية إلى لغتنا العربية نُمكّن القارئ العربي من معرفة حضارة هذه الأمة ،فالرواية هي تاريخ الشعوب الحقيقي كما قال إدوارد سعيد ، وكذلك ما الأمم والشعوب إلا سرديات كبرى .
ولكن هل تتم الترجمة باتجاه واحد ؟ بمعنى أن نقوم نحن فقط بالترجمة عن الأمم المختلفة ؟!
الجواب الحتمي هو لا ، يجب ألا تكون ترجمة باتجاه الآخر فقط ، بل يجب أن يكون لها اتجاه مقابل ، أن تتم ترجمة علومنا وآادابنا إلى ذلك الآخر ، حتى يتعرف علينا بالتوازي ، وحتى يمكننا أن نغير الصورة الذهنية التي رسمها ذلك الآخر لنا، لأنه في ظل الفكر الكوليونالي رسم العالم الغربي صورة ذهنية عن العربي ،فهو في أفلام الغرب وخاصة الأمريكية هي صورة لرجل يعيش في خيمة ويركب جملا ، رجل بدائي، وقد ألصقت بنا صفة أخرى بعد أحداث 11 سبتمبر ، بل هي تهمة لا معنى لها أن تلصق بشعوب تمثل ثلث سكان العالم ، وهذه التهمة هي تهمة الإرهاب ، فكل عربي في نظر الغرب الأوربي والأمريكي هو مشروع إرهابي محتمل ، من هنا نجد أننا بحاجة ملحة أن يعرفنا العالم ، ويغير صورته الذهنية عنا ، ويعرف أننا امم متحضرة تعيش على خارطة الحضارة الإنسانية وتسهم فيها بشكل أو بآخر .
الجدير بالذكر أن العرب قاموا بأول حركة ترجمة في العصر العباسي الأول ، نقلوا علوم وفنون وآداب اليونان إلى العربية ، ليس هذا فحسب ، بل ترجموا فلسفات سقراط وأرسطو وأفلاطون ولم يخش أحد على ضياع هويتنا العربية الإسلامية ، وقد نقلت ترجمات المسلمين إلى الغرب ، وقامت على هذه العلوم والآداب الحضارة الغربية المعاصرة ، فلولا ما ترجمه العرب في العصر العباسي وما تلى ذلك جهود ما تعرفت أوربا على منجزات الحضارة اليونانية ، وما قامت الحضارة الأوربيية الحديثة .
كذلك يمكن أن نؤرخ لحركة الترجمة في العصر الحديث في العالم العربي بداية من القرن التاسع عشر مع ذهاب البعثات المصرية إلى أوربا بدأت الترجمة لأعمال كثيرة من الآداب الأوربية ، ثم اتسعت حركة الترجمة لتشمل الفنون والآداب والعلوم الإنسانية المختلفة.
حين نتحدث عن مشروع الترجمة يجب أن نعي وندرك أن ثمة أمور يشترط توافرها حتى تؤتي هذه الترجمة ثمرها بما يفيد الأمة ومن هذه الشروط :
1 ـ أن تكون الترجمة وفق استراتيجية واعية ومدركة لخصوصية الثقافة العربية الإسلامية ، من ثم يجب انتقاء من الترجمات ما يتناسب مع تلك الخصوصية وما لا يتعارض معها .
2ـ انتقاء الأعمال الفنية والأدبية التي تمثل وسيلة ربط للمواطن العربي بالمنجز الإنساني ، وفي ذات الوقت لا تتعارض مع منظومة القيم التي تمثل الإطار الثقافي لمجتمعاتنا .
3 ـ أن تقوم بالترجمة مؤسسات لا أفراد ، فلا يجب أن تقتصر الترجمة على الجهود الذاتية للأفراد ، ومن مثال ذلك مشروع المركز القومي للترجمة في مصر ، ومشروع " كلمة " في الشارقة .
4 ـ ألا تقتصر عملية الترجمة على دول دون أخرى ، بمعنى ألا نظل نترجم عن الغرب الأوربي والأمريكي ونتناسى أن ثمة أمم في العالم يجب أن نتعرف على حضارتها ومنجزها الإنساني ، فتتوسع قاعدة الترجمة لتشمل آسيا وإفريقيا، مما يجعل القارئ العربي ملما بكل الثقافات .
5 ـ ألا تكون عملية الترجمة ذات اتجاه واحد ، فيجب أن نمتلك مشروعا قوميا يضع استراتيجية تعاون بين المؤسسات العربية الثقافية والمؤسسات الأخرى المختلفة يتم عن طرقه ترجمة الإبداع العربي للآخر ، كما نترجم إبداعه ونتعرف على خصوصيته الثقافية ،يجب أن يتعرف علينا الآخر بالتالي .
قد تصلح الثقافة ما أفسدته السياسة ،فنظرة الغرب عنا التي انبنت على أفكار سياسية وأيدلوجية من الممكن أن تغيرها الترجمة ، وكذلك نظرتنا نحن على الآخر قد تغيرها الترجمة ،فبمساعدة الثقافة نستطيع البحث عن مواطن الاختلاف و التنوع بيننا وبين الآخر ، وليس عن جوانب الخلاف ، ولأن الثقافة لا تعد ترفا بل ضرورة حياتية ومعرفية فمن الممكن من خلالها أن نتعرف على هذا الآخر ، لذا يجدر بنا الاهتمام بالترجمة التي تدفع إلى توثيق العلاقات بين الشعوب من خلال تبادل الثقافة والمعرفة بين العالم العربي ومختلف الثقافات كبوابة حضارية بين الأنا والآخر .
لا يختلف اثنان على أن الترجمة تتطلب موارد مالية كافية يتعين توفيرها سلفا يشكل مشترك بين الجهات العامة والمنظمات الدولية ذات الصلة ومنظمات المجتمع المدني ، بالإضافة إلى القطاع الخاص سواء كان في قطاع النشر أو على الصعيد الاقتصادي بشكل عام ، في إطار لعب دوره الثقافي والقيام بجزء من مسئولياته المجتمعية ، فعملية الترجمة ومشروعها تصلح أن تكون مشروعا قوميا، يجب أن يتبناه القرار السياسي إضافة لقوى المجتمع المختلفة من أجل بناء مواطن عربي قادر على أن يكون جزءا من العالم ، وقادر كذلك أن يواجه تحديات الراهن والمستقبل .