القاهرة 24 سبتمبر 2019 الساعة 09:00 ص
كتب : أحمد مصطفى الغـر
خلال العام 1923م، وإبان فترة الاحتلال البريطاني لمصر، ارتبط نشيد "بلادي بلادي" بوجدان المصريين ومشاعرهم، وصار أيقونة الأناشيد الوطنية، عندما استلهمه الشاعر "محمد يونس القاضي" من خطبة شهيرة للزعيم الوطني "مصطفى كامل"، ووضع موسيقاه فنان الشعب "سيد درويش"، فتغنى المطربون بكلماته جيلا بعد جيل، ومازال يحلق بأنغامه في فضاء الوطنية المصرية والحلم العربي.
وتبدأ قصة نشيد "بلادي بلادي" مع مؤلفه الشاعر والأديب "محمد يونس القاضي"، عندما كان ينشر قصائده في مجلة "اللطائف المصورة"، وتوطدت صداقته بفنان الشعب "سيد درويش"، حينها طلب درويش من القاضي أن يكتب أغنية تعبر عن عشق الوطن، وتؤثر في وجدان المصريين، فكتب القاضي "بلادي بلادي" بحس وطني مرهف، وتناغمت كلمات النشيد مع خطبة شهيرة للزعيم مصطفى كامل، ألقاها قبل رحيله بشهور قليلة في مسرح زيزينيا بالقاهرة مساء 22 أكتوبر 1907، حيث احتشد نحو 7 آلاف شخص، وكان القاضي من بينهم، لسماع خطبة زعيمهم المدافع عن حق بلده في التحرر من الاستعمار، وقال فيها: "بلادي .. بلادي، لك حبي وفؤادي، لك حياتي ووجودي، لك دمي ونفسي، لك عقلي ولساني، لك حبي وحياتي، فأنت أنت الحياة، ولا حياة إلا بك، يا مصر".
كلمات الزعيم "مصطفى كامل" أثرت بشكل كبير في وجدان القاضي، وألهبته بالحماسة والوطنية، فكتب "بلادي.. بلادي" لترجمة مشاعر الشعب المصري بعد نفى الزعيم سعد زغلول ورفاقه، وقد لحّنه "سيد درويش"، بموهبته الموسيقية السابقة لعصرها، وتمرده على القوالب التقليدية للتلحين، وحقق نجاحًا مدويًا، حيث ردده المصريون في التظاهرات المنددة بالاحتلال الإنجليزي، لقد كانت مصر وحبها ومشاكلها في عقل وقلب "محمد يونس القاضي" وكانت بطلة أعماله، والتي من أهمها: (أهو ده اللى صار) و(شال الحمام.. حط الحمام من مصر لما للسودان) و(يا عزيز عينى) التي كتبها بسبب إجبار الشعب على الخدمة العسكرية في صفوف الإنجليز المحتلين، ولا ينسي التاريخ له أغنيته عام 1911م (يا ست مصر صباح الخير).
في 26 يناير من عام 1923م، توجه "محمد يونس القاضي" إلى المحكمة المختلطة بالقاهرة، وقام بتسجيل نشيد "بلادي" و12 طقطوقة وموالين من تأليفه، ومن ثمَّ تم تأسيس جمعية المؤلفين والملحنين المصريين، والتي انضم إليها مؤلفون وملحنون كُثر في هذا العصر، ولأول مرة يحصلون على وثائق الملكية لمؤلفاتهم، وحق الأداء العلني، ولولا هذا لنسبت أعمالهم إلى آخرين، لكن بالرغم من هذا التوثيق، فقد تعرض القاضي لظلم شديد، عندما نسب البعض نشيده إلى الشاعر بديع خيري، لتأليف الأخير معظم أغنيات وأوبريتات سيد درويش، ولكن أبناء المؤلف الأصلي، أثبتوا ملكية أبيهم لنشيد "بلادي بلادي" ومازال ورثته يحصلون على حق الأداء العلني لجميع مؤلفاته من الإذاعة والتلفزيون المصري، وكما يروى "حسين عثمان" في حكاياته وذكرياته بمجلة الكواكب عام 1979م، إن القاضي قد روى له عن استيائه من ادعاء البعض ملكية سيد درويش للنشيد.
تذكر كتب التاريخ، أن أول نشيد وطني مصري معروف هو السلام الوطني الذي بدأ عزفه في عام 1869م في عهد الخديو إسماعيل، وينسب وضع هذا السلام الملكي إلى المؤلف الموسيقي الإيطالي فيردى. أما نشيد "بلادي .. بلادي" فقد ظهر غنائيًا لأول مرة بصوت مطربة العشرينيات "الست تودد"، والمطرب محمد بهجت، وسجلت الاسطوانتين شركة ميشيان، وهما من التسجيلات النادرة لتلك الفترة، وظل النشيد يتردد بأصوات المطربين جيلاً بعد آخر، ومنهم المطرب محمد البحر درويش ابن سيد درويش، ووالد المطرب إيمان البحر درويش، وأيضا شادية، ومحرم فؤاد، وسمير الإسكندراني وغيرهم.
في عام 1965م، قام المطرب إسماعيل شبانة (شقيق العندليب الأسمر) بغناء النشيد ضمن أغنيات مسرحية "سيد درويش" التي ألفها صلاح طنطاوي وإخراج محمد توفيق، وبطولة محمد نوح، ووداد حمدي، وفي العام التالي سجل شبانة بصوته "بلادي بلادي" وأغنيات فيلم "سيد درويش" للمخرج أحمد بدرخان، وبطولة كرم مطاوع، وهند رستم، وأمين الهنيدي، وقد لعب هاني شاكر دور سيد درويش في طفولته.
وفي أواخر السبعينيات، قرر الرئيس الراحل "محمد أنور السادات" أن يصبح "بلادي.. بلادي" هو النشيد الرسمي لمصر، وقام بتوزيعه الموسيقار الراحل "محمد عبدالوهاب"، وفي تلك الفترة كان التلفزيون المصري ينهي إرساله كل ليلة بالسلام الوطني، وفي ديسمبر 1982م، صدر القرار الجمهوري رقم 590، والذي نص في مادته الأولى على أن "يراعى أن تصاحب كلمات المقطع الأول من نشيد "بلادي بلادي" النوتة الموسيقية في جميع الاحتفالات الشعبية والوطنية، وأن يقتصر السلام الوطني على عزف النوتة الموسيقية بغير نشيد في حالة استقبال الرؤساء والوفود الأجنبية، وفي غير ذلك من الأحوال التي تقتضي عزفه مع السلام الوطني لدولة أجنبية.
لقد أبدع القاضي ودرويش في تجسيد معاني الانتماء والوطنية في نشيد بلادي، الذي سيظل على مر السنين نشيدًا وطنيًا عاصر مع المصريين انتصاراتهم ومجدهم: بلادي... بلادي / مصر يا ست البلاد / وعلى كل العباد / مصر يا أرض النعيم / مقصدي دفع الغريم / مصر أولادك كرام / سوف تحظي بالمرام.