القاهرة 17 سبتمبر 2019 الساعة 12:46 م
كتب: د. محمد السيد إسماعيل
من الظواهر التى أصبحت مستقرة فى النقد الأدبى تلك العلاقة الوثيقة بين الرواية والتاريخ سواء أكان تاريخا بعيدا على نحو مانرى فى " الزينى بركات " لجمال الغيطانى أم تاريخا قريبا كما نجد فى رواية "رجل الثلاثاء" لصبحى موسى على سبيل المثال، لكن ما يميز رواية " الخواجا" للكاتب اللبنانى محمد طعان هو انطلاقها من فترة تاريخية معاصرة وهى فترة الحرب الأهلية اللبنانية لا لكى تصور مأساتها فحسب بل لكى ترسم آفاق مستقبل مغاير يقوم على الوحدة والتألف بين أبناء الشعب الواحد على اختلاف أديانهم وطوائفهم.
ولم يكن هذا الاستشراف رغبة طوباوية مفارقة للواقع بل واقعا معيشا قبل هذه الحرب الطائفية التى مزقت المدينة الواحدة – وليس الوطن فحسب – إلى مناطق متنازعة متقاتلة والحقيقة أن الرواية تقوم على جيلين من الشخصيات يعكس كل منهما واقع الفترة التى عايشها وهما جيل الآباء الذى لم يكن مستبعدا فيه الأخوة فى الرضاعة بين المسيحى والمسلمة كما فى حالة جوزف البستانى وفاطمة وجيل الأبناء الذين توزعوا على الميلشيات المسلحة المتصارعة ويعتبر مسيو جوزف الشخصية المحورية فى هذه الرواية التى تحمل لقبه " الخواجا" وهو لقب أعجمى تعود اللبنانيون إطلاقه " على كل عين من أعيان قراهم أو مجتمعهم " ( " الخواجا" محمد طعان ص9).
فبعد أن كان يطلق – فى الماضى – على الأوروبى أصبح يدل على كل شخص ذى مزايا لايمكن إنكارها وقد كان مسيو جوزف متصفا بهذه المزايا حقا حيث كان محبوبا من المسلمين والمسيحيين ويتمتع بمكانة مميزة بين الجميع وبسبب هذه المكانة استطاع أن يقوم بدور كبير فى تهدئة النزاعات بين الطائفتين المسيحية والإسلامية وتغلبت حكمته وحكمة جيل الآباء عموما على " العقول الدنيئة التى تحركها غرائز الثأر " كما " كان على يقين أن ماكان يسود المجتمع اللبنانى – فى الماضى – هو أكثر من تفاهم كان نوعا من التكامل الطائفى " (ص44).
ولم يكن هذا عجيبا من مسيحى رضع " من حليب مرضعة مسلمة " لكن ابنه سامى وأحمد ابن فاطمة شقيقته فى الرضاعة ثم سامر ابن السائق الذى حاول إعادة جوزف إلى بيته فى قرية " الجية " ذات الأغلبية المسيحية ثم موت هذا السائق أثناء رجوعه بسبب لغم دفنه المسيحيون فى الطريق المهجور الذى سلكه لتهريب جوزف هؤلاء الشباب الثلاثة يمثلون جيل الأبناء الذين توزعت بهم انتماءاتهم على ميلشيات متقاتلة وأصبحوا أعداء حقيقيين.
ورغم هذا المصير الواحد الذى آلوا إليه فإن دوافعهم كانت مختلفة وهذا ماحاول الكاتب تصويره فى مشاهد روائية جيدة فطبيعة سامى كانت مهيأة لهذا التحول فقد كان مدمنا – بسبب عشراء السوء – للمخدرات مما يعد تمهيدا لإدمانه أفكار الميلشيات الواهمة حول الوجود المسيحى المهدد فى لبنان فارتدى "الزى العسكرى الكاكى الذى ترتديه الميلشيات معلنا أنه يحافظ على قوميته وعلى إيمانه المسيحى " (ص14).
الموت الذى رآه سامى بعينيه هو لحظة التحول الفارقة التى أوقفته أمام ذاته كان الموت الذى رآه هو موت رفيقه فى الموقع بعد إصابته بقذيفة إصابة مباشرة ووقوفه – أى سامى – عاجزا عن إنقاذه بعدها عاد إلى أسرته وزار أصدقاءه القدامى من المسلمين الذين كان قد " أسس معهم منذ عشر سنين نادى اتحاد شباب الجية المسيحيين والمسلمين ".
ولم يكن هذا النادى رياضيا فقط بل " كانوا يزاولون فيه نشاطات اجتماعية وفنية " ومن هنا تأتى أهمية الفن فى الارتقاء على الخلافات الطائفية و أخذ أحمد طريقا شبيها بما حدث لسامى إلى درجة كبيرة فقد أهمل تعليمه وتكرر هروبه من المدرسة وتناول المخدرات ودخل السجن حتى وجد ضالته فى الحرب الأهلية التى وفرت له " الوسيلة المثلى لكى يسترسل فى نزعاته الشريرة وفى عدوانيته وأفرغ فيها بشكل أعنف وأفظع الحقد الوحشى الفظ الكامن فيه " (ص52) لكنه يتعرض أيضا – كما حدث لسامى – لحالة تحول مؤلمة حين يرى مسيو جوزيف فى غرفة الإنعاش وتدهور حالته الصحية بسبب ما فعله أحمد معه حين دفعه إلى الهجرة ثم سرقة الصليب الذهبى والأيقونة اللذين كان حارسا عليهما.
وتكفيرا عن كل هذا يقرر أحمد إعادتهما إلى أسرة مسيو جوزف بعد وفاته أما قصة سامر فهى مختلفة عما سبق فسامر – لاحظ تقارب الاسم مع سامى – هو ابن السائق الذى تفجر فيه لغم زرعته ميلشيا المسيحيين فتعامل سامر مع ماحدث بوصفه ثأرا شخصيا دفعه إلى الانضمام لأحد الميلشيات لتنفيذه حتى تبين له " أن الحرب الأهلية هى التى قتلت والده والرجل العجوز – مسيو جوزف – لم يكن إلا الوسيلة التى استعملها القدر ليضع حدا نهائيا لأيامه والعكس كان يمكن أن يحصل أى أن يقتل سائق مسيحى وهو يعود بمسلم إلى بيته الذى طرد منه "(ص115).
تتعرض الرواية كذلك للغزو الإسرائيلى للبنان عام 1982هذا الغزو الذى وحد بين الطوائف اللبنانية المتقاتلة وكان للخواجا دور بارز فى هذه التهدئة حيث " دعا الوجهاء المسيحيين والمسلمين فى بيته ولم يتغيب أحد وحث الحضور من الجانبين على ضبط العواطف ودعا إلى التهدئة "(ص58) وأكثر من ذلك فإنه – طيلة فترة الاحتلال الإسرائيلى – ألزم نفسه مهمة إنقاذ حياة المسلمين والمحافظة على أموالهم.
إن الرواية ليست مجرد نوستالجيا إلى ذلك الماضى القريب ماضى لبنان الذى يضم شعبه بكل أديانه وطوائفه بقدر ماهى رسم لمعالم المستقبل القائم على حقوق المواطنة الكاملة المكفولة للجميع .