القاهرة 12 سبتمبر 2019 الساعة 04:09 ص
د. هويدا صالح
لقد تراجع دور الكلمة في الصيغ التعبيرية في المسرح، فبعد أن كان دور الكلمة جوهريا في المسرح الكلاسيكي، حيث يعتمد بالأساس على نص الخطاب المكتوب، الذي يصبح بالضرورة منطوقا حال تحول المسرحية من حالة النص إلى حالة العرض، أصبح الأمر مختلفا حينما مُنحت لغة الجسد مساحات كبرى للتعبير، وأزاحت الدور الرئيس للكلمة، فبدأ الاهتمام بالحركة والكوريغراف، وصارت لغة الجسد لغة تعبيرية. فالممثل استطاع من خلال الحركة أن يحقق خطابه البصري.وصارت لغة الجسد قادرة على التوصيل والتواصل، فهي لغة عالمية يفهمها الجميع، حتى وإن اختلفت لغاتهم المحكية وثقافاتهم المختلفة. وقد عرفها الإنسان القديم حتى قبل اختراع الكلام. ورغم اختراع الكتابة والتدوين إلا أن لغة الجسد ظلّت هي الأكثر قدرة على التعبير. وقد ارتبطت لغة الجسد بالمسرح منذ البدء، حيث الاعتماد على جسد الممثل في أدائه، بل أصبحت تمتلك بلاغتها الخاصة بما يفوق بلاغة اللفظ وما يمكن أن يوصله من دلالات ومعانٍ، فللجسد قدرات خلاقة وإمكانيات جمالية، ليس بوصفه جسدا يتحرك، بل بوصفه مفكرا ومنتجا للمعنى عبر لغته الخاصة، وفلسفة هذه اللغة في التعبير عن المعنى.
كما يمكن من خلال لغة الجسد الكشف عما يجول في النفس الإنسانية، وتعتبر حركات الممثل على المسرح وسيلة من وسائل التعبير التي يلجأ إليها، فالوظيفة التعبيرية للأداء الحركي على المسرح تساعد على اكتمال الرؤية الإخراجية ، حيث تصبح حركة الجسد وسيلة من وسائل التمثيل الصامت الذي يعتمد على التعبير الحركي مع بقية عناصر العرض من ديكور وإضاءة في توصيل الرسالة الجمالية للنص المسرحي.
إن المسرح المعاصر وهو يراهن على استخدام بلاغة الجسد، إنما يسعى بالضرورة إلى إحداث نوع من المفارقة والدهشة والمغايرة لما هو سائد والخروج على المعايير التقليدية للمسرح الكلاسيكي، حيث الاعتماد على النص المكتوب الذي يتحول على لسان الممثل وعبر رؤية المخرج إلى نص محكي.كما يراهن عبر توظيف لغة الجسد إلى مغامرة جمالية تتسم بالجرأة في التناول والتنوع في الرؤى الإخراجية مع تحويل مساحات الصمت التي يتركها النص المكتوب إلى مساحات أكثر صخبا التي تصنعها لغة الجسد.
وهذا التطور الجمالي في المسرح التجريبي والمعاصر منح لغة الجسد مكانة أوسع من مكانة اللفظ المنطوق، مما أتاح الإفادة من الدراسات النفسية والفلسفية التي تشير إلى وعي القائمين على العرض المسرحي المعاصر بمقتضيات هذه الدراسات النفسية والفلسفية, مما يتيح الإفادة من هذه الدراسات لإيجاد صيغ تعبيرية تعتمد على جسد الممثل وتعبيرات وجهه، في تشكيل صورة العرض، وانطلاقا من محاولة تجسيد الواقع على خشبة المسرح.
والاعتماد على لغة جسد الممثل يجعل المخرج يركز على انفعالات الشخصية وصراعاتها الداخلية وانعكاساتها على الشكل الخارجي للممثل، بحيث تصبح السيادة للفعل الجسدي الذي يثري العرض، ويقيم تواصلا مع المتلقي، بحيث ينعتق صناع العرض من سلطة اللفظ، مستخدمين لغة الإشارة والإيماء ووضعية الجسد؛ وحركته المعبرة عن معان ودلالات تثري العرض؛ مما يتطلب أن يمتلك الممثل قدرا من المرونة الجسدية التي تتيح له الحركة والتعبير، بحيث يمكن تدريب الجسد على توصيل الملامح والمشاعر المرغوبة من خلال مفردات لغته.
ويقوم الممثل وفقا لـ " مارتن اسلن " بإنتاج ثلاثة أنواع من العلامات بجسده، هى علامات جسده باعتباره كائنا فوق الخشبة وعلامات اللعب وتشمل التعبير الحركى، ثم علامات صوتية يصدرها بجسده، وتقوم هذه العلامات بخلق فضاء مستقل بذاته يتفاعل مع باقى العلامات المسرحية البصرية والسمعية لإنتاج الدلالة، لذلك يؤكد السيميوطيقيين على أن القيمة الحركية الجسدية للممثل ثلاثية الأبعاد"أيقونى، إشاري، رمزي".
لكن كيف يمكن للممثل أن يتمثّل لغة جسده وهو يقف على المسرح؟ هل ثمة تدريبات يقوم بها ليدرب جسده على أن تصنع دلالات المعنى المراد منه توصيله للمتلقي؟ هل ثمة ورش للتمثيل تعلم لغة الجسد وكيفية توظيفها على المسرح في مواجهة الجمهور؟ هل يمكن أن يجد الممثل جسده بلا خبرة، بلا معرفة بتلك اللغة الإشارية؟ هل الوعي بهذه اللغة تجعل الممثل يحسن التصرف، يصنع لجسده مجالا على المسرح؟
أم أنه يعتمد فقط على تراكم الخبرات و التجربة الذاتية ومن المجتمع الذي ينتمي إليه. ويعبر من خلال هذا في أدائه للشخصية الدرامية متمثلا أبعاد الشخصية، صانعا لغة للجسد خاصة به تعبر عن مكنون الشخصية وما يعتريها من انفعالات؟
إن الممثل يصير ذاتا منتجة للمعنى، لكن بشرط وعيه بمفردات لغة الجسد، بطرائق التعبير عن الحزن والفرح، بالقدرة على تلوين فونتات الصوت حسب المعنى الذي يجب إيصاله.
إن الممثل يصبح مشاركا للمؤلف في إنتاج المعنى، من خلال دراسة الشخصية بكل محمولاتها الثقافية وخلفياتها المعرفية وحالاتها الانفعالية التي تحدد وجدانها ورؤيتها للعالم، ومن ثم يصنع الممثل عبر لغة جسده هوية الشخصية ويمنحها كينونتها. إن الوعي بلغة الجسد لدى الممثل تمكنه من صياغة نص المؤلف صياغة عميقة، فه يقرأ ما بين السطور ويجسد الشخصية الدرامية عبر وعيه بفلسفة الجسد ولغته.
إن فلسفة الجسد والوعي بها تفرض أيضا على الممثل أن يعي أن ثمة لغة جديدة لا تعتمد فقط على الكلمة، بل تعتمد على الوجود الفيزيقي لجسده، بحيث يتمكن من تشكيل فضاء بصري عبر جسده.
كما أن المخرج يستطيع عبر وعيه بفلسفة الجسد أن يفيد من معطيات السينوغرافيا مع إمكانيات التعبير الجسدي للمؤلف ليصنع ا علاقة مشهدية متجانسة ومتكاملة فالصورة المسرحية المتكاملة هي الفن المركب من تقنية الإخراج وعناصر السينوغرافيا.