القاهرة 27 اغسطس 2019 الساعة 02:33 م
كتب: حاتم عبد لهادى السيد
ظهرت قصيدة النثر العامية في مصر لتكمل مشوار مسيرة الشعر العامي الذي يشكل وجدان الأمة ، إذ هو صوت البسطاء ، والمهمشين والمقهورين والفقراء والعامة ، الذي يعبر عن آمالهم وآلامهم وطموحاتهم، وهو في الأساس " أدب الشعب " و " ضمير الأمة " الذي يمثل حركة المجتمع والحياة .
ويعتبر الشاعر / مسعود شومان أحد أبرز جيل الثمانينات الذين تشبعت تجربتهم والتصقت بتجارب شعراء العامية الكبار وعلى رأسهم : ابن عروس ، صلاح جاهين، فؤاد حداد، بيرم التونسي ، سيد حجاب ، وغيرهم.
ولعل جيل الثوريين في شعر العامية لم يغفل ظهور جيل ينادى بأحلام المصريين وطموحاتهم ، ويحارب الطبقية والرأسمالية ابان ثورة 1952م وما بعدها حتى عام 1973م ، وعبور الهزيمة فظهر الشعراء : أحمد فؤاد نجم ، وعبد الرحمن الأبنودى ، والكابتن غزإلى ، فؤاد قاعود ، وكامل حسنى ، وغيرهم ممن ثوروا الشعر إبان النكسة حتى انتصارات أكتوبر .
كما لا يمكن أن نغفل جيل التسعينات وبدايات نشأة قصيدة النثر العامية على أيدي شعراء شبان طموحين أرادوا تجديد مسيرة وقماشة الشعر المصري فوجدنا : مجدي الجابري ، يسرى حسان ، مسعود شومان ومحمود الحلواني و سعدنى السلامونى، مدحت منير وغيرهم من شعراء الصعيد والوجه البحري ومدن القناة وسيناء وغيرهم .
ولسنا هنا بالطبع بصدد التأريخ عن مسيرة شعر العامية ، ولكن اقتضت المقدمة ذكر بعض الأعلام الفاعلة ، والتي أثرت مسيرة الشعرية قبل وإبان وبعد عام 1973م وظهور ما يسمى بالأدب القومي ، المعبر عن طموحات العرب وحلم القومية والوحدة آنذاك .
ولقد نجح الشاعر / مسعود شومان في تقديم ديوان ينتمي للحداثة وإلى قصيدة النثر العامية الجديدة ، وكان قد أصدر- من قبل - عدة دواوين تفعيلية / عامية ، منها : أول بروفة ، بيجرب يمشى على رجل واحدة ، رجل أثقل من سنة 67 ، صاحب مقام ، وأخيراً ديوانه - الذي بين أيدينا :" قبل مايردموا البحيرة " وغير ذلك.
وفي ديوانه الأخير يخرج / مسعود لنا بهذا الديوان المفارق ، الجميل والمدهش ، والغريب عن ذائقة متلقي قصيدة النثر – آنذاك – فنراه يفسح للتفاصيل الصغيرة جانباً كبيراً ، كأنها منمنمات تبرز جوهر الإبداع والشعرية دون التدخل في معاضلات لغوية ، حيث اللغة البسيطة غير المتكلفة، أو التراكيب التي قد تشتت الذهنية لدى الجمهور العادي / الشعب ، المواطن البسيط التي تتوجه إليه القصيدة ، وإلى القارئ المثقف أيضاً .
ولقد استطاع هذا الإبداع الجديد أن يؤثر في الذائقة الشعبية بتحريكه للخيال الجمعي التنويري لتحفيزهم لتثوير أفكارهم، وإيقاظ الوعي لديهم عبر الشكة العصبية اللغوية / المفارقة ، وعبر التنقل عبر اللغة الإشارية التي تحملت بمضامين اجتماعية وسياسية وأيدلوجية أيضاً .
إنه يبرز معاناة جيل شهد ربقة الظلم والفقر والتشرد والضياع ، فجاءت القصائد أشبه بالشعر المقاوم للشارع المصري ، ولتأكيد الذات الجمعية الوطنية والانتماء ضد الأمركة والتبعية والامبريالية والصهاينة وغير ذلك .
لقد نجح شاعرنا عبر العنوان المفارق : " قبل ما يردموا البحيرة " أن يحيلنا إلى ذواتنا وكأنه النذير الذي يصرخ في برية السكون والصمت، أو هو صوت الضمير الذي يصرخ في الجمال ليحيلنا إلى الحياة / الواقع / ضمائرنا لنحارب المسخ / الأجنبي / المستعمر / الظلم أينما كان، لتتجسد إنسانية القصيدة عبر شعرية الجماد التي تنتهجها موضوعات القصائد، ولغة الديوان المفارقة .
وعبر ديوانه نراه يدخلنا إلى قلب القصيدة / جوهر الأحداث ، عبر شعرية الجماد التي يستنطق فيها الحجر / الجبل / الكهف ، أو إلى البحر / نقطة الماء / عش العصفور / الحيطان / أرجل الترابزة / الثلج / الشجر / ، أي ينتقل من المفردات البسيطة والمجردات إلى التفاصيل الإحالية الدالة والتي تحيلنا إلى ذواتنا وإلى المجتمع والعالم والحياة .
ويأتي التصدير ليكشف عن عالم شومان وتضميناته لبعض من آثار : فريد الدين العطار ، الطاهر بن جلون ، جون كوكتو ، حيث كما يقول الأخير : أن الأخلاق لا تخرج أحداً من المقبرة الجماعية، وحيث التصوف والمفارقة التي يصنعها الإنسان وتحمله أن يكون حراً ومشبوهاً في الوقت ذاته ، وبين الوحدة التي يراها مسعود في " بحر وحيد ومحوطاه الصحرا " والذي يحيلنا عبر اللغة / اللهجة التجريدية إلى صور جمالية تنم عن وحدة الذات القلقة ، يقول :
البحر اللى رسمته على اللوحة
بعد ما غرّقت نفسي في بقع الألوان
كان بحر وحيد ومحاوطاه الصحرا
ماشى مش دريان / لا كان فيه خفّ جمل / ولا ريح بتصفّر
وما كان أوان برتقان . ( االديوان :ص8:7 ) .
إنها القصيدة التي تعبر عن الذات / الوحدة / القلق الوجودي / المجتمعي عبر مجتمع البساطة / التفاصيل ، حيث الكهف المهجور وذاته التي تسير خلف (غيامة عبيطة ) ، وحيث دوائر الصمت / المطر / الحلم والتي تصنع القصة الشعرية / القصيدة – كما أحسب - ، وحيث الصور السوريالية التي تفرغ مضامين الشعرية لصالح المعنى الإحإلى الذي يحمّله في ذات الوقت بدلالات مكتنزة، وكأننا أمام قصة الذات وتطوفها في سدم العالم والكون ، فتتعرى الحقيقة الجميلة / المفارقة :
( الورقة الفاضية ) التي تتباهى بحريتها
حريتنا
حرية المجتمعات النازعة للحرية
الحلم / الكتابة / التعبير عن الذات
الثورة الداخلية والظاهرية حيث الفرار من الروتين
/ الجلوس على المكتب /
التقوقع في شرنقة الذات وجلدها عبر بطاقات التأمين الصحي
الدوسيهات / المقهى ...
وربما كل ذلك وغيره يكشف عن تغايرية نمطية للهجة العامية المصرية التي تحيلنا – عبر لعبته الشعرية – إلى تبادلية ولا تراتبية بادية – ظاهرياً – للأحداث والمواقف ، ولكنها تفكيكية عبر الدوال لتحيلنا إلى المقولة المشهورة : " المعاني ملقاة في الطريق ، والمبدع الحقيقي يلتقط الزاوية التي تراها تمثله، أو تتسق مع ذاته / عالمه /حياتنا اليومية التي يتغياها ويتوسلها الشعر عبر الحياة وديمومتها المتتالية .
كما يستخدم الشاعر لغة القصة / القصيدة ، أو الدوائر الشعرية عبر مسيرة تقنية التجديد النثري لتلك القصيدة المشتهاة / الغرائبية / المقلقة والمجهدة في آن، والجميلة أيضاً ، يقول :
الحواديت التي اختارت أوضتها
وابتدت تلبس هدوم البيت
البيت اللى بينه وبين المكتب
سبع سنين م الحزن
الحزن اللى سابه لوحده ع المحطة
ورفرف على أول فستان معدى
لعبة مملة !! . ( الديوان : ص 35 ) .
والشاعر هنا / الراوي / السارد يجيد لعبة " تبادلية الأدوار " والمعاني عبر اللغة التغايرية التي تشكل دوائر تسلم معانيها لغيرها لتدلل إلى تنامي هارموني القصيدة / القصة / الحكاية الشعبية، عبر شعرية الجماد، أو اللفظة المجردة التي يحمّلها بمضامين وموضوعات ودلا لات نفسية واجتماعية عبر إشاريات التضمين والإدهاش الإحالي للكلمات التي تستنطق ما يود قوله ، أو التصريح به .
ولعلنا نشير إلى جماليات الأسلوبية وبساطتها عبر اللغة الرشيقة التي يحكم سبك معناها ، ويجيد رصف مبانيها وأزقتها المندغمة عبر الصور الإحالية التي تجعل القارىء في تشاركية معه عبر الذات التي تستعذب الوجع الشهى المرير ، والمعتاد لديه / لدينا كذلك .
كما تبدو الشعرية متبداة في مستهل قصائده التي تصيبنا بالدهشة والحنين والشجن ، ولا تملك إلا أن تأسرك في عالمها / عالمه ، يقول :
باقى جبلين
وشجرة
هنا قبرها
أوعى تصدق صوت المزيكا
اللى مخبيها في جيوبك . ( الديوان : ص48) .
إنها غرائبية متبداة على مستوى الشكل، لكنها مغايرة في المضمونية حيث الصور السوريالية / التفكيكية التي نراه ينثرها على الورق ، مع اختلاف دلالاتها ، وكأنه يستعيض بالصورة الإحالية عن المعنى القريب ليحدث التورية الذاتية / الواربة للذات المنكسرة عبر الحلم / الكتابة، وكأنه يتوخى ظلال المعاني لاستكناه خاف ظاهر القصيدة / الحدث / المعنى، لتدلل إلى مساحة الحزن الممتدة والزاعقة ، والصارخة في صمت مهيب ، وباذخ ، وجميل .
كما يصدح الديوان بالأسئلة طوال الوقت ، عبر السرد الذاتي للغربة / الوحدة ، وكأنه طوال الوقت في صراخ / في تجريب وتغريب ، وتجريد واختزال للغة السلسالة المنتضمة عبر مهجة روجه / وكأنها صوفية للذات / متواترة / قلقة / جميلة وغرائبية / لا متناهية كذلك .
ولعمرى، أن شعراً يحدث المفارقة والإدهاش – طوال الوقت – لهو شعر حقيق بالدرس الأدبي والنقدي، فهو يحيلنا إلى إحالات ذهنية وروحية وعقلية عبر لغة تخش إلى القلب وتتغلغل في الوجدان فتحدث الشكة العقلية والروحية في آن ، ويلاحقها بالمفارقة المباغتة التي تتجلى في أغلب قصائد الديوان .
كما أن شعرية الجماد – كما أصطلح – تنبع من استخدامه للمعاني الشاهقة كالجبل ، والجليد – وان تحلل إلى الصورة السائلة – والورقة ، وغير ذلك ، وهى تحيلنا إلى صور تجريدية / أشبه بالسوريالية / الصورة والظلال / عبر ألوان الكتابة التي تكسر التوقع ، وتحيلنا إلى الدور الوظيفي للغة ، والمعاني الإحالية الجديدة / الاختزالية / التخيليية / إلى اللامألوف / اللاتراتبى / مابعد الحداثى ، وكأنها كتابة مابعد حداثية تتنازعها الأصالة والمعاصرة عبر الحداثة الجديدة المفارقة لواقعنا المترهل / ذواتنا / مجتمعنا / العالم الذي يحاول الشاعر أن يظهره بمواربة ، ويجدد من ثوبه المرتق / القديم .
إنه ديوان يهتم بالشكل والمضمون ، بالصورة عبر ظلالها وإحالاتها ، بالوجع الشهي الزاعق بالروح ، كما أنه يحيلنا لذواتنا التشاركية التي تُشرك القارئ في الحدث ، أو عبر التخييل ، لكنها الشاعرية متبداة على الطريق / الأوراق عبر إشاريات اللغة البسيطة / المفارقة / العميقة التي تمثل جودة متبداة وسموقاً باذخاً لقصيدة النثر العامية التي تبتنى – ومازالت – لها مكاناً متأنقاً ن ومغايراً في مسيرة شعر العامية الباذخ ، والجميل ، صوت الشعب العربي الممتد من المحيط إلى الخليج عبر الكون والعالم والحياة .
Abdelhady.hatem@yahoo.com