القاهرة 20 اغسطس 2019 الساعة 10:36 ص
بقلم: سماح ممدوح
ربما شاهد الكثيرون فيلم(البحث عن سيد مرزوق) أحد روائع المخرج داود عبد السيد، والذي يحكي عن شخصية غامضة غير مفهومة، تحمل كل التناقضات التي لن يصدق من يصادفها إنها لشخص واحد فقط، وهو (سيد مرزوق، على حسنين).
عند قراء رواية (مقتل بائع الكتب، للروائي العراقي، سعد محمد رحيم) سيجد تشابها، أو ربما ستشبه الرواية الفيلم، لتشابه الشخصيتين فيهما، سواء كانت شخصية بطل الرواية،أو بطل الفيلم، الغامضة في كلا من العملين، أو في شخصية البطلين(الباحثين) أيضا، واللذين يبحثان وراء غموض الشخصيتين الرئيسيتين.
تبدأ الرواية بتكليف الصحفي (ماجد البغدادي) بتدوين كتاب عن أحد المثقفين العراقيين بعد مقتله في مدينة بعقوبة العراقية. وجاء التكليف من شخصية غامضة، يبدو عليه الثراء لكن شخصيته ظلت مجهولة حتى آخر الرواية.
بعد هذا التكليف ينتقل الصحفي إلى مدينة بعقوبة، حتى يقف على أحداث مقتل(محمود المرزوق) المكلف بكتابة كتاب عن حياته، أيضا ليلتقي بأصدقائه الذين سيعرف منهم كل شيء عن حياة البطل، ويبدأ في تتبع الخيوط التي ستوصله إلى حقيقة شخصية المرزوق بائع الكتب، الغامض صاحب الحياة المبهمة.
يحاول الصحفي كشف غموض الشخصية من خلال بعض الكتابات، المتمثلة فى يوميات محمود المرزوق، والذي شرع في كتابتها قبل مقتله ولم يتممها. ووجدها الصحفي في مكتبته.
أيضا من خلال المراسلات التي كتبها أصدقاء للمرزوق، أو حتى كتابات هؤلاء الذين أمسوا أعداء له. وهذا ما سيوقع الصحفي في فخ المتناقضات التي ستضيع كل محاولاته في فهم الشخصية، أو حتى الحكي عنها بضمير مستريح.
فكلما أتى بدليل على نبل شخصية المرزوق،سطع دليلا آخر بنفس القوة ليدحضه.
بالرغم من أن الرواية تشبه السرد(البوليسي الطابع)إلا أن الرواية ترصد بعضا من التغيرات الاجتماعية، والمادية، ربما النفسية أيضا، التي طرأت على المجتمع العراقي بعد الغزو الأمريكي.
فالمرزوق والذي كان يأمل أن يزدهر مشروعه(إقامة مكتبة)لبيع الكتب، فشل المشروع، وانتهى الأمر بدلا من المكتبة التي لا تهدأ فيها الحركة طوال ساعات العمل،إلى (مكتبة) أقرب إلى مخزن الكتب، التي لا يقرأها أحد ولا طاقة لأحد على شراءها،في قبو أحد المنازل(منزل أحد أقرباء المرزوق).
في الرواية أيضا يتضح للقارئ، مسألة( المساواة في القهر) سواء كان في الوطن أو في المنفى. تبين ذالك أثناء إقامة المرزوق في العراق، في فترة شبابه، حينما تعرض للاعتقال من غير تهمة، ثم تم ترحيله على متن قطار إلى معتقله، وكان القصد من ترحيله هو ومن معه في رحلة القطار هذه، قتلهم جميعا، لكن الصدفة وحداها هى من أنقذته، وتم تهريبه إلى خارج العراق، وهذا بالطبع بعد أن اضطر إلى التخلي عن حبيبته عشية خطبتيهما.
يهرب المرزوق من القهر في العراق ليجده في منفاه في باريس، حيث تم استجوابه من المخابرات من غير تهمة أيضا، وللمرة الثانية يضطر للتخلي عن حبيبته، والهرب والنفي من المنفى.
تتجلى تناقضات الشخصية، التي من المفترض أن يكون صاحبها كاتبا، ورساما، وموسيقى، من خلال رسائل الأصدقاء والحبيبات السابقات، سواء في المنفى أو الوطن. فهذا يكتب مادحا شخصه النبيل حد التقديس. وذلك يذمه حتى تخاله لا يذكر أي حسنة له، يذكرها بعد موته.
ومما يزيد الحيرة، هو أن كل الروايات المحكية والمذكورة والمكتوبة، عن البطل الغامض، من كل المصادر، جاءت روايات مقنعة تماما، لا تشوب إحداها شائبة الكذب والتلفيق، سواء روايات المادحين أو روايات الذامين.
وهذا أيضا يذكرني بوجه الشبه بين(الرواية والفيلم)فشخصية محمود المرزوق(بائع الكتب) في الرواية، تشبه تماما شخصية سيد مرزوق في هذه النقطة، كل ما حُكي عنهما مقنع تماما، وهذا ما يوقع المأساة على رأس البطلين (الباحثين) عن حقيقة الشخصيات الغامضة، سواء كان( يوسف في الفيلم، أو ماجد البغدادي فى الرواية).
هناك أيضا نقطة محيرة وتدعو لتساؤلات في كل من العملين(الفيلم والرواية) وهى نهاية كل من الشخصيتين، فلابد أن يسأل القارئ والمشاهد،أهكذا تكون النهاية؟ أو هكذا فحسب تكون نهاية كلا من البطلين؟ سيد مرزوق في الفيلم اختفى بعد أن أُتهم يوسف بقتله.
أما نهاية محمود المرزوق، ربما كانت بائسة حتى لهؤلاء الذين صدقوا شره وتدني خلقه. فبائع الكتب بعد كل هذه الصولات والجولات والمغامرات، بعد كل ما قيل وكتب عنه، جاءت نهايته لا تليق بكل ذلك.
فقد (قتل خطأ). وهذا ما أسر به الضابط المكلف بالتحقيقات في مقتل بائع الكتب، فبعدما كانت القضية ضد مجهول، واستمرت التحريات عن القاتل اتضح أن القاتل كان يقصد شخصا آخر، له نفس شكل وصفات المرزوق. وربما هذه النهاية أكملت سلسلة التناقضات في كل من الشخصيتين، فربما لم تكن تليق بحياتهما الغامضة، نهاية أقل غموضا.
جاء أيضا رد فعل البطلين (الباحثين) وراء شخصياتهما المبهمتين، لا يقل عما عرفا، فـ (يوسف، في الفيلم)ترك البحث أخيرا عن سيد مرزوق، أما عن (ماجد البغدادي) قرر فقط الاكتفاء بنشر وذكر ما وقع تحت يده من مصادر عن حياة المرزوق، كما جاءته تماما، لا يزيد أو ينقص، سواء كانت مصادر سلبية أو ايجابية، دون أن يحكم عليه.
أحيانا أفكر في أن ذكر كل هذه التناقضات سواء في(شخصية الفيلم أو الرواية) جاء فى الصالح الإنساني،إنسانية من يقرأ ومن يشاهد، حتى لا يعتقدن أحد أن العالم، تحديدا الإنسان، هو خير مطلق أو شر مطلق. فربما لو تعاملنا على أننا نشتمل على هاتين الطبيعيتين المتناقضتين، ربما استرحنا قليلا.