القاهرة 13 اغسطس 2019 الساعة 09:12 ص
كتب: د. حسين عبد البصير - مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية
آمن الفراعنة بالسحر وقوة الكلمة المكتوبة والشفاء من خلال قوتها السحرية. وآمنوا كذلك بقدرة الكلمة على التنكيل بمن يعرض آثارهم وأعمالهم الأخروية للاعتداء والتدمير. وكان من بين ذلك ما عُرف بـ"لوحات حورس السحرية".
ويأتي تمثال جد حور الشافي بين أهم الأعمال القادمة لنا من مصر الفرعونية. وتم نحت تمثال الكاهن جد حور الشافي من البازلت الأسود. وهو من أشهر التماثيل الفرعونية بالمتحف المصرى بميدان التحرير. ويوجد في الدور الثاني في المتحف. وجاءت الشهرة الطاغية لهذا التمثال من الشائعات التي انتشرت حوله، والتى تدعي أنه تمثال "مسحور"، وهي شائعات وليست لها أي أساس من الصحة، وليس هناك أي دليل علمي يؤيدها.
ويعود تاريخ هذا التمثال إلى العصر المتأخر من تاريخ مصر الفرعونية. وينتمي إلى نفس المدرسة الفنية والسحرية التي أنتجت ما يعرف بـ"لوحات حورس السحرية". ويعتبر تنويعًا عليها. وظهرت "لوحات حورس السحرية" في العصر المتأخر. وكانت تُستخدم لأغراض علاجية عديدة، خصوصًا العلاج من لدغات الحيات والعقارب والزواحف السامة.
وقُصد بالرموز المحفورة على تلك اللوحات مخاطبة عالم آخر، وهو العالم النجمي أو "دوات" في اللغة المصرية القديمة. وكان العالم النجمي في نظر المصري القديم هو عالم يتداخل مع الحياة الأولى، ولم يكن منفصلاً عنها، وكان هو العالم الذي تذهب إليه الأرواح بعد الموت، وكان أيضًا المصدر الذي تأتى منه كل الأشياء، وكانت أيضًا تكمن فيه أسباب كل الأمراض. وكان الكهنة في مصر القديمة يقومون بمعالجة المرضى عن طريق الاتصال بهذا العالم الخفي.
وكانت لوحات حورس السحرية جزءًا من طقوس السحر في مصر القديمة. وكانت رموزها تخاطب العالم النجمي. ويحمل تمثال جد حور الشافي كل الرموز الموجودة بلوحات حورس السحرية. فالكاهن يجلس وأمامه لوحة مصور عليها حورس الطفل يطأ بقدميه تمساحين يتجه كل منهما عكس الآخر. وكانت التماسيح في العالم النجمي رمزًا للخطر الكامن الذي كان لا يراه الإنسان. فكان التمساح يقبع تحت سطح الماء. وكان يتربص بضحيته حتى إذا توهمت الضحية أن الماء آمن، انقض التمساح عليها من تحت الماء. ويطأ حورس التمساحين بقدمه كرمز للتغلب على الأسباب الكامنة للأمراض. ويمسك حورس في إحدى يديه أسدًا، وفى اليد الأخرى غزالاً، رمز الشراسة والوداعة. ويقف حورس الطفل متزنًا. وهذا الاتزان هو سر الشفاء؛ فالمرض في الأصل هو عبارة عن خلل في توازن الانسان. وما تفعله الرموز الموجودة بلوحات حورس السحرية هو أنها تخاطب العالم النجمي بلغة الرمز، وتعيد التوازن إلى المريض مما يساعده على الشفاء. وفوق حورس هناك رأس الرب "بس" المختص بحماية الأطفال. وهو يحمي الطفل حورس في مهمته.
وتمثال الكاهن جد حور الشافي مغطى بالكامل برموز تخاطب العالم
النجمي. ورموز الحيات والعقارب من أكثر الرموز انتشارًا بالتمثال. وفوق ظهر التمثال صورة للرب "حكا"، رمز السحر الكوني. وكان التعامل مع التمثال وما يحمله من رموز يتم باستخدام الماء، حيث كان يقوم الكهنة بصب الماء فوق التمثال وتركه ينساب ويتجمع في حوض صغير تحت أقدام حورس الطفل. وكان يُترك الماء يتفاعل مع الرموز الموجودة بالتمثال حيث كان يتم شحن الماء بطاقة هذه الرموز القوية. وبعدها كان يُعطى الماء للمريض ليشربه أو يغتسل به، حيث كانت تقوم طاقة الماء بإحداث التوازن داخل جسم المريض وتساعده على الشفاء.
وللتمثال حضور قوي للغاية، وبه طاقة لا يمكن تجاهلها. ولا يمكن تجاهل تلك الابتسامة الهادئة على وجه تمثال جد حور الشافي. وهي ابتسامة كلها طمأنينة وسكينة. وتعد طاقة إيجابية يبثها التمثال بقوة في المريض فتساعده على الشفاء. إنها مصر الفرعونية الساحرة ذات السحر الذي لا يُقاوم.