القاهرة 06 اغسطس 2019 الساعة 11:52 ص
قصة قصيرة
بقلم: جيلان صلاح
هناك أيام تبدأ مثل أمس، لا تترك بقعة في الذاكرة
لكن اليوم، ترك متطفلاً يرتدي جاكت أسود جلدي وعلى جسده وشوم عدة، يقبع في الفضاء وراء المطعم، متكوماً على نفسه وراء صفائح القمامة، يحتضن قطاً أجرباً يشبهه كثيراً، له شعر أشقر مشعث وعينين سوداوين عميقتين – بصمة على روحي، أعادت لها المشاعر بعد حياة راكدة من الجمود.
"حضرتك محتاج حاجة؟"
"فوطة؟"
قالها بسخرية أذهلتني، صندوق القمامة المتحرك هذا مازال يمتلك ترف السينيكالية؟ أنا التي أقضي ليلتي في شقتي الصغيرة والتي لا يستغرق طريق الذهاب والعودة منها إلى هنا نصف ساعة كل يوم مازلتً أجد صعوبة في الضحك على أفلام عادل إمام وأحمد حلمي. الساعات التي أقضيها أمسح المناضد وراء الزبائن، أزيل الأطباق التي تحمل بقايا طعامهم، أو أحاول تفادي الكوارث التي يصنعها أبناءهم انتزعت مني قدرتي على الابتسام. أعود للمنزل كل يوم مسمرة أمام نتفلكس، والتي لولا مساعدات أختي من الكويت لم أكن لأجد القدرة على دفع اشتراكها الشهري.
"حضرتك ليه قاعد هن..."
هب من مكمنه، سحبني إلى جنبه لألاصق أكياس وصناديق القمامة التي تحمل روائح المقالي والدهون المشبعة وأكوام المناديل الملوثة، وضع كفه على فمي ونظر في عينيّ مباشرةً،
"لو كنت أقدر أدخل من الباب، ماكنتش عملت زي باتمان،"
هززتُ رأسي فسحب يده، واكتشفت في هذه اللحظة أن عرقه يشع برائحة الكولونيا التي تعطر بها. كأنما العطر ذاب في ثنايا الجلد!
"ممكن فوطة؟"
تسللت يده إلى شعري الطويل والذي انفكت العقدة التي عقدته بها جراء التحامنا الجسدي ببعضنا، تنبه إلى أنني انتبهت لما يفعل فسحب يديه ورفعهما كأنما أصوب له مسدساً وآمره بذلك.
"ده اسمه تحرش على فكرة،"
ابتسم ورفع حاجبيه، واندهشتُ لاستعادة قدرتي على المزاح مرة أخرى.
ظهر رأس القط من بين الفراغ المتواجد بين أعلى ذراعه وجسده، واكتشفت أنه شديد النحول، ربما يرتدي الجاكت الجلدي ليخفي مدى نحوله، ويحاول التظاهر ببعض من شدة وصياعة، على غرار داني زوكو في جريس.
"ممكن الفوطة؟"
لم أفهم مدى ضيقه من البلل بينما الرائحة العطنة تفوح من حولنا حتى تكاد تزكمنا، قمت من مجلسي وعدلتُ من تنورتي القصيرة ثم اتجهت للباب الخلفي ثانيةً.
في مطعمنا، تداهمك الروائح ما إن تدلف إلى المدخل؛ بصل وثوم وسمن ولحم يُطهى بكميات كبيرة. أكل شوارع في أكثر صوره إفساداً لنسب الكوليسترول في الدم. أنشأه مستر أشرف وصديقيه بعد أن رُفد من وظيفته كمصمم 3D في إحدى الشركات العالمية المرموقة. أقنعه صديقاه بأن يساهم معهما بما يملك في البنك، ووضعا خطة تسويقية كاملة للمطعم، بحيث يكون علامة تجارية وليس مجرد مكان يتناول فيه الشباب البطاطس المقلية والكولا.
وقد كان!
في غرفة الخزين، بحثت عن فوط، والتفتتُ، لأجده ورائي، القط ذو الجاكت الجلدي والجلد الذي يشع عطراً على هيئة عرق.
"في حد طلع برة،"
تطلعت إليه، واكتشفت لماذا يلح على فوطة، من مؤخرة رأسه سال خيط من الدماء وتجمد في خيوط طويلة على جانبي رقبته.
سحبته للداخل وأدخلته إلى جانب دواليب القطنيات وأدوات التنظيف وحشرته بين دولابين.
"ماتتحركش عشان محدش يشوفك ويسلموك للبوليس،"
ابتسم وهو يريح رأسه للخلف ببطء لئلا يزيد انبثاق الدم،
"في حالتي البوليس أمان، مش العكس، لكن ما ينفعش دلوقتي،"
زادني كلامه حيرة، لكنني قررتُ ألا أسأل، خرجت وأغلقت الباب ورائي، واتجهتُ لأتابع الطلبات، لا بد أن زينة وماري قامتا بالتغطية على غيابي، لكنني خفتُ أن أثير انتباه مستر أشرف، والذي لا يتكلف مجهوداً في ملاحظة غيابي من عدمه. فهو كما تقول ماري "حاطك على دماغه وزاعق،"
أكملتُ الشيفت على أكمل وجه، ومن ذهني طردتُ صورته؛ وإن تمثل لي أكثر من مرة كلما سمعتُ مواء قط، ولم تساعدني نظراتي المختلسة إلى الغرفة المغلقة حيث يقبع سري الأكبر.
بنهاية الشيفت، جلس مستر أشرف مع جون وأيمن ليتحاسبوا، بينما انسللتُ أنا لغرفة الخزين، ووجدته وقد خلع الجاكت الجلدي، ولف رقبته بفوطة بيضاء، تشبعت بالدماء السائلة.
"أنت محتاج تروح مستشفى،"
ضحك ضحكة قصيرة قطعها بسرعة ثم أغمض عينيه، اقتربتُ منه، وضعت كفيّ على جانبي رقبته،
"أنت عندك كام سنة؟"
"أنا شاب ولكن عمري ألف عام،"
أدرت عينيّ في محجريهما، لماذا يظن شباب هذا الجيل أن التظاهر بالحكمة والشاعرية شيئاً مغوياً.
لكنه شيئاً مغوياً، بالفعل. جلستُ على ركبتيّ، وتلاصقت سيقاننا، فتح عينيه المتسعتين مثل بوس إن بوتس، وظل يحدجني بيهما دون أن يطرفا.
كنت أعلم ما سيحدث، وما من امرأة تجهل هذه اللحظات، أو تغفل عن مغبة التقدم في لحظة مشابهة، لأنها عندها تصبح على يقين بأن التراجع لن يكون محتملاً، طالما يداه طالتا ملابسها.
وقد كان.
لم يحمل إيانا واقياً ذكرياً، ولم نخلع ملابسنا كليةً، وانتهى كل شيء بسرعة، كما بدأ، لكننا بعدها تعانقنا طويلاً، وقبل هو شفتيّ ثم همس، أنفاسه التي تشي بعدم تناوله الطعام لفترة طويلة في مواجهة العلكة الحلوة التي تركت آثارها على فمي وشفاهي،
"لو فيه طفل، نسميه محسن،"
دفعت وجهه بعيداً وقمت لأعدل ملابسي،
"ماتقلقش يا بوس إن بوتس، أنا عاملة حسابي،"
لم أكن في الواقع عاملة حسابي، لكن الميعاد لم يكن سيئاً فيما يتعلق بالتبويض، والفضل في هذا كان لتطبيق متابعة الدورة الشهرية الذي اضطررتُ لتحميله على جهازي بعد أن اكتشفت إصابة مبيضيّ العزيزين بعدة تكيُّسات، أظهرها لي طبيبي على شاشة السونار.
"هقدر أنام هنا؟"
لم أتخيل أن تواتني الجرأة لأذهب به لبيتي، بقاؤه هنا أأمن عليّ وعليه.
"حاول عم عبده مايشوفكش الصبح،"
اتجه للدولاب بحثاً –كما يبدو- عما يمكن ارتداؤه، وكانت أول مرة ألحظ العلامات على معصميه، خطوط طولية حمراء، ومواضع انسلخ فيها الجلد تاركاً اللحم عارياً.
"أنت مين؟"
التفت ليواجهني، ولم تكن في عينيه النظرة المتحدية التي توقعتها.
"بيقولوا عليا زورو، بس أنتي ممكن تناديني عمر،"
***