القاهرة 06 اغسطس 2019 الساعة 11:44 ص
كتبت : سماح ممدوح
عل الرغم من ابتداء الرواية بالعنوان الخيالي (فرانكنشتاين) والذى كان فى أصله من خيال الروائية ماري شيلي إلا أن الرواية ما هي إلا عين راصدة للواقع لكنها واقعية ترتدى ثوب الخيال، واقعية تخرج من قلم السارد الشاهد العيان "أحمد سعداوي" على الواقع العراقى المأساوي الذى ترويه الحكاية.
فى البدء يطل علينا عنوان الرواية (فرانكنشتاين فى بغداد) ليخمن القارئ من الوهلة الأولى ما سوف يلاقيه بين صفحات الرواية، فى البدء يخمن الحكاية الأصلية لصناعة (وحش فرانكنشتاين) والذى كان عباره عن تجربة علمية لكن القارئ فى خيال هذه القصة لن يجد أمامه ما تبادر إلى ذهنة فى البدء ف"أحمد سعداوى" عندما قررخلق الخيال فى الرواية كان لابد وأن يكون خيال مختلف وهذا ما نجح فيه فقد أحاك ثوب خيالياً جديدا يتناسب مع الواقعية التى يحكيها فأصبح (فرانكنشتاين سعداوى) ذو شخصية متفردة وميولا مختلفة حتى صناعته نفسها لم تكن بذات صلة بالفكرة الأصلية.
وفي رواية فرانكنشتاين نجد أن مبدأ ميخائيل باختين عن (حوارية الرواية) محققا تماما فهذه الرواية تطرح كل الأفكار تتعدد فيها الآراء تحتوى الشخوص فيها على طيب الصفات وخبيثها فقد أخذت الشخصيات جميعا كفايتها فى الوصف والإلمام بجوانبها كافة فلم يتركز الاهتمام فى السرد على شخصية أو اثنين فحسب وبهذا يستطيع القارء أن يجد نفسه فى واحدة من تلك الشخصيات.
يبدأ السرد فى الصفحات الأولى من الرواية بما يشبه البانوراما أو اطلاع القارئ على كل معطيات الصورة التى سيدور فى فلكها إلى آخر الرواية عرفنا فى البدء كل شخوص الرواية تقريبا (العميد سرور، فرج الدلال، العجوز ايلشوى، أم سليم البيضة، محمود السوادى الصحفى، عزيز المصرى، ناهم العبدكى، ابو انمار، وعلاقتهم ببطلي الرواية (العتاك والشسمة).
تبدأ الرواية بالتواجد فى قلب (العاصفة الواقعية) فى العراق تبدا بأخبار الانفجارات وهو الحدث الأساسي فى محور السرد والذى سينسلخ منه ظرف صناعة بطل الرواية نفسه، ففى واحدة من الانفجارات اليومية يموت "ناهم العبدكى" صديق لبطل الرواية وصانع الوحش "هادى العتاك" ولما لم يستطيع العتاك التعرف على جثة صديقة فى المشرحة الذى ذهب ليتسلمه ويدفنه اختلطت عليه الأشلاء فنصحه عامل المشرحة بتجميع جثة من هذه الأشلاء والتظاهر بأنها لصديقة "قال الموظف فى المشرحة لهادى: اجمع لك واحد وتسلمه خذ هذه الرجل وتلك اليد وهكذا"
وحينها ظهرت موهبة (العتاك) الفنان الذى يرمم التحف وكما يفعل مع التحف صنع صديقة جمّع له أعضاء ونسقها معا وخاطها ليكّون ما بدأ أولا صديقة الطيب وانتهى بالشسمة المجرم الذى لم يتوقع العتاك أن تدب فيه الروح بل وسيمتلك الارادة التى تطلب الثأر لكل مظلوم يشتمل جسده المشوه عضو فيه.
لم يكن الخيال فى شخصية (الشسمه) سطحيا قط إنما استطاع أن يتعمق ويصل إلى أعمق النقاط فى نفوس الشخوص (وذواتهم) الذين تكونت منهم الشسمة، لكن بالرغم من ذالك التعمق إلا أن الصورة جاءت بسيطة غير معقدة حتى أن القارء يستطيع أن يتخيل الصورة فى الرواية كأنها مشاهد سنيمائية واضحة تماما. هكذا بدأت شخصية الشمسة فى الظهور ويمتد خط علاقتها بكل الشخوص لتبدأ الخطوط الدرامية تزداد حد التشابك لكن دون الإخلال بالخط السردى الأول.
لم تتوقف آلية السرد بالرغم من تباين اللغة التى كتبت بها الرواية بعض الشيء ، فقد كتب السعداوى الرواية بالعربية الفصحى مضيف إليها بعض من المفردات والجمل الكاملة من اللهجة المحلية العراقية مثل (الشسمه/أو اللى شو اسمه) والتى فسرها في آخر صفحة من الرواية، ليس فقط فى اللهجة العراقية فحسب إنما طريقة ولهجة كل شخصية داخل الرواية فقط جعلهم يتكلمون كلاً على حسب طبقته الاجتماعية ودرجة تعلمه فلم يتكلم محمود الصحفى مثلا كما يتكلم العتاك، فما دامت تلك الشخوص هم ابناء المجتمع المتعدد الطبقات (اجتماعيا وثقافيا واقتصاديا) فلابد لهم أيضا من التعدد اللغوى "يتحقق التعدد اللغوي بصفة واضحة على مستوى الشخصيات، حيث تتجسد لغتهم من خلال «تنوع طبقات الأسلوب الذي حيك به السرد؛ ويأتي هذا التنوع الأسلوبي، استجابةً للتفاوت بين الشخصيات، وتعبيرا عن الفوارق الاجتماعية التي تعكسها اللغة» عبد المنعم زكريا القاضى /البنية السردية فى الرواية ، وكان ذلك من أهم سمات تلك الرواية.
ربما التعدد اللغوى فى الرواية هو ما جعل أسلوب الكاتب بالقوة التى استطاع بها إيصال (قوة العاطفة) التى شُحنت بها الكثير من المشاهد للقارئ كما لو كان يعيش هذه المشاهد حقيقة، فمثلا فى مشهد تصوير العتاك وهو يلملم أعضاء أعز أصدقاءه استطاع السعداوى إيصال مدى (إنسانية) العتاك بالرغم من أنه شخصية سيئة الخلق به الكثير من المساوئ " أخرج هادى آنفا طازجا مازال الدم القاني المتجلد عالقا به، ثم بيد مرتجفة وضعه فى الثغرة السوداء داخل الجثة فبدا كأنه فى مكانه تماما كأنه أنف هذه الجثة وقد عاد إليها" وبهذا الأسلوب التصويرى استطاع السعداوى إيصال الصورة المتناقضة عن العتاك وكلها مصدّقة، بمعنى أنه وصف العتاك فى بداية الفصل بالكذاب لما يرويه من أخبار لا ندرى صحتها، فكما صدقنا كذبه أيضا صدقنا إنسانيته عندما أخذ يجمع شتات جثة صديقه.
بالرغم من سوداوية الصورة (الواقعية) التى تجسدها الرواية إلا أن من الظلام يشع النور أحيانا وتمثل ذلك فى بعض شخصيات الرواية مثل: العجوز ايلشوى بما تحلت به من أمل بعودة ابنها (دنيال) المتوفى منذ عشرون عاما أيضا مثل "أم سليم البيضة" صديقة وجارة العجوز ايلشوى والتى بكت البكاء الصادق والمر على فراق العجوز عندما غادرت ايلشوى الحى مع حفيدها .
ترك العديد من النهايات فى هذه الرواية مفتوحة سواء كانت نهاية الشخوص مثل (باهر السعيدى رئيس التحرير الفاسد الهارب بسرقاته، أو محمود السوادى الهارب لدى أهله) أو نهاية الأحداث كالانفجارات اليومية التى تبدأ بها نشرات الأخبار. لكن بما أنها رواية تحكى عن الواقع وهذا الواقع لم يصل إلى نهاية بعد إذا فمن الطبيعي ألا تصل أحداث أو شخوص الرواية إلى النهاية أيضا.