القاهرة 23 يوليو 2019 الساعة 11:17 ص
كتب: د. محمد السيد إسماعيل
ينتمى الشاعر حسين القباحى إلى ما يعرف فى تاريخ قصيدة التفعيلة المصرية بجيل السبعينيات الذى أعقب جيل الريادة ممثلا فى صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطى حجازى، وجيل الستينيات الذى كان أمل دنقل وعفيفى مطر وأبوسنة من أبرز شعرائه، وقد حاول جيل السبعينيات – من خلال جماعتي " إضاءة " و" أصوات " تحديدا – إحداث ثورة حقيقية فى مفهوم الشعر وأدواته وغاياته من خلال استخدام التشكيلات الجمالية المغايرة والتركيب المجازي واللغة متعددة الدلالات وهو ما صنع قطيعة – بدرجة ما – بين معظم نماذج القصيدة السبعينية وقارئها.
فى الوقت الذى كان فيه حسين القباحى – مع بعض الشعراء خارج القاهرة – يغردون خارج هذا السرب فحافظوا على وحدة التفعيلة واستخدموا لغة تجنح إلى التواصل مع المتلقى ومزجوا بين الهموم الخاصة والعامة وهذا ما نلاحظه فى ديوان " قصائد جنوبية لامرأة لا جنوبية ولا ..." الذى صدر مع ديوان " كلام فى مستهل الوجع " تحت عنوان " نقوش جنوبية " عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة ويحيلنا العنوان – بداية – إلى محورية المكان حيث الجنوب بكل محمولاته التاريخية الأصيلة التى تؤكد البعد المصرى القديم بوصفه أحد أبعاد الهوية المصرية الفاعلة ولاشك أن هذا مما يفسر دال " النقوش " الموحى بالثبات فى مواجهة عوامل التحول والزوال إنه النقش على الحجر الذى يغالب الزمن ويتجاوزه على نحو ما كان أحمد شوقى يصف أبا الهول.
كما تتخذ " الأم " – فى الإهداء – بعدا عاما يتجاوز ما هو خاص دون أن ينفيه بطبيعة الحال ، تبدو الأم كأنها الأصل الذى يعود إليه الشاعر ويستمد منه وجهه الأصيل حين نقرأ " تمليت وجهها / حين شربت الجنوب / وارتحلت طويلا طويلا / وهى ترسمنى لحظة لحظة / لأخرج كما شاءت واشتهت / قطعة من صفائها الذى لايغيب / وإن غابت " يبدو الشاعر – هنا – صنيعة هذه الأم التى رسمته " لحظة لحظة " ليخرج " كما شاءت واشتهت " وهى أم دائمة الحضور لا تعرف الغياب القيمى أو المعنوى رغم غيابها المادى.
وباستحضار هذا البعد الأصيل يبدو الشعر وكأنه فى رحلة زمنية ومكانية دائمة لا يعرف – فيها – الاستقرار أو الاستكانة وهى رحلة تجمع الشىء ونقيضه الأمر الذى ينأى برؤية الشاعر عن الطرح الرومانسى التمجيدى للذات وللواقع حين يقول " مزجت فى مراحلى / الحب بالشجن / والليل بالحزن / ووجهى النقى / بوجهى العفن / وعمرى النبى / بعمرى الوثن / لأننى أدركت أننا / نفيق مرة ومرة نجن " ( " نقوش جنوبية " حسين القباحى ص 9دائرة الثقافة والإعلام حكومة الشارقة 2004) تبدو الذات – هنا – كما لو كانت ذاتا جمعية وليس أدل على ذلك من تحول ضمير المتكلم الفرد إلى ضمير المتكلم الجمع فى نهاية السطور .
هذا التقابل الذى لاحظناه بين الحب والشجن والليل والحزن والنقاء والعفن والنبوة والوثنية يمهد لانشطار الذات على نفسها وصراعها الداخلى حين يقول " وامتد ما بين نصفى ونصفى / أزاوج ما بيننا والبلاد " هذه التقابلات نجدها – كذلك – على مستوى الأنثى ففى قصيدة " بكائية الرمق الأخير " يربط الشاعر بين العشق والموت أو القتل أحيانا مستدعيا فكرة الفناء من التراث الصوفى فهو يفنى فى الدنو والفراق أو فى الاشتعال والانطفاء حيث " اختار أن يموت مرتين / حينما اشتعل / وحينما انطفأ " فهو معذب فى كل أحواله وإذا ما حاول تجاوز هذه الأحوال كلها يكون مصيره الموت بعد أن " أماط عن وجوده اللثام / وفجر الدماء والبكاء والكلام / وكان إن نأت / يعضه الظلام / وإن دنت / يخاف الابتسام / وحينما استطال نحو شمسها / تنكرت له / فمات فى سلام ".
وسوف نلاحظ وفرة الأفعال المنسوبة إلى الذات الشاعرة وهى أفعال تتسم بالتضحية والحزن ومحاولات الخلاص فى مقابل ندرتها بالنسبة للذات الأنثوية حيث لم تتجاوز أفعال : الدنو والنأى ثم التنكر مما يعد تمهيدا للمصير الذى انتهى إليه الشاعر وواضح أن هذا المقطع – مثل غيره فى هذه القصيدة – يقوم على بنية تصاعدية متنامية يسلم كل حدث فيها إلى الآخر بعلاقة سببية واضحة والحقيقة أن الشاعر لا يتعامل مع الموت أو القتل بوصفه نقيضا للعشق بل متمما له فحين حاول منقذو هذا العاشق بعثه أبت حبيبته وانساب صوتها :" لأننى أحبه / وأعشق ابتسام عمره / دعوه يحتضر".
وكثيرا ما يمتد رمز الأنثى لتكون دالة على الوطن وهى رمزية موظفة منذ جيل الريادة وتأخذ عند كل شاعر لونها الخاص وزاوية الرؤية التى يحس بها ويعبر عنها فمرة تكون تكون قاسية معذبة لمحبيها ومرة تكون حانية عليهم لكن شاعرنا حسين القباحى ينأى عن هذه الأحادية ويمزج بين المتناقضات حيث " أراد أن يقول : إنها وطن / وإن لحظة انتفاض كفها فى كفه زمن / وإن حلمه الكبير أن يعيش عمره يعانق الوثن / ويخلط الحبور بالشجن / والليل بالحزن / لكنه دفن ".
والشاعر نفسه يدرك مافى شعره من تميز واختلاف حين يتماهى مع شعره وقصائده الغزلية التى هى " من عين عينه / تعيش إن يعش / تموت إن قتل " وكما يتماهى الشاعر مع شعره فإنه يتماهى مع من يحب ويتوحد به حتى وإن كان ذلك المحبوب قاتله مستعيرا – فيما يبدو – قول الحلاج " اقتلونى يا ثقاتى / إن فى قتلى حياتى " على المستوى الدلالى حين يقول " وودت لو أسكنت روحى خافقيك / ونسيت أنك قاتلى " وتتأكد دلالة الأنثى على الوطن حين يعلن الشاعر أنه يتمدد من " أقصاها " إلى " أقصاها " وحين يتحدث عن ثورة " المحارات " على الحكام المستبدين وأحلام الرعب.
وفى مواضع أخرى يقوم الشاعر بتوظيف دال " العراف " الذى يحاول استشراف المستقبل وتوظيف آلية السرد السريع المتتابع الذى يوحى به توالى الأفعال على هذا النحو " همست للإنسان الساكن فيها : " لا تتعجل " / صمت ..فقامت / تقرأ كف الغيب / تمرد .هاجت / ألقت فى مرجلها بعض تعاويذ الكهان / وقرأت ألف كتاب " إن تتابع الأفعال – هنا – بدون حروف عطف - اللهم إلا فى موضع واحد حيث استعمل " الفاء"- يوحى بتدفق السرد وحيويته وفى هذا السياق يأتى توظيف الحوار السريع الموجز الذى لا يتجاوز – غالبا – الكلمة الواحدة :" – نرحل ؟ / نرحل / - نمكث ؟ / نمكث / - بضع دقائق أخرى ؟ / بضع دقائق ".
كما يستخدم الشاعر ما يعرف بتراسل الحواس حين يشبه الصوت باللون اللامرئى فى قوله " أسير على ثرثرة حكاياك الهزلية / ثم أعاود مد سخافات الإصغاء / فيبدو صوتك / لونا لامرئيا ".
وتستفيد بنية المقاطع الشعرية التى تنقسم إليها بعض القصائد من فنية الأبيجراما فى إيجازها وتقفيتها وإحكامها حين نقرأ " الشارع الطويل بيننا / إرادة تموت / وقلبى الطموح يا شريكتى / ذبابة فى خيط عنكبوت ".
وأخيرا يمكن الإشارة إلى توظيف الشاعر لبعض الشخصيات التراثية كما فى قصيدته " مفاهيم جديدة .. لعنترة الجديد " الذى يجعل منه قناعا للشاعر أو المثقف المعاصر، والأمر نفسه نجده فى قصيدة " لن يرجعوك " المهداة إلى روح الشهيد الفلسطينى خليل الوزير، حين يستدعى عنترة العبسى وخالد بن الوليد ومعاوية بدلالات معاصرة .