القاهرة 19 يوليو 2019 الساعة 09:19 م
كتبت: سماح ممدوح حسن
""أنا مزيد الحنفى النجدى" الكلمة التى رافقت البطل حتى النهاية.. ومنذ البدء عندما خرج مزيد الحنفى من نجد تحديدا من منطقة اليمامة حاملا على عاتقيه مهمة إيصال العلم إلى كل الأرجاء التى يستطيع الوصول إليها، هكذا عرّف بطل رواية"مسرى الغرانيق فى مدن العقيق" للكاتبة السعودية"أميمة الخميس".
كنا قديما نعرف تلك الحكاية عن هذا الشخص الذى يجد خريطة لكنز فيبدأ بالتخطيط ثم التنفيذ لرحلة الوصول إلى الكنز، وفى الرحلة يمر ببلاد وعباد، يختبر تجارب لم تخطر له على بال، يلتقى بإناس ونفوس لم يتخيل يوما إنه سيعرفها، يحب ويفارق، يكره ويسامح، يسمع الفلسفة من أفواه لا يوحى مظهر أصحابها بأدنى حد من الوعى ، يفهم ويجهل، وحين يأتى للحظة الوصول لاكتشاف الكنز ويضع يده عليه فلا يجد محتوى الكنز ما تخيله يوما من جواهر ثمينة، ولكنه يجد تلك الرسالة التى تخبره بأن الكنز لم يكن ما يحتويه الصندوق من جواهر ومتاع، إنما الكنز كان فى الرحلة التى قطعها إليه وشكلت منه ما هو عليه فجعلت منه إنسانا.
كذلك مزيد الحنفى، المثقف البريء الذى لم يشغفه يوما سوى حب العلم والكتب وشرع فى رحلة كان يخطط تماما لنهايتها لكن أتت النهاية بما لم يتخيل يوما، لكنه أيضا فطن أن الرحلة هى نفسها كانت الجائزة.
مزيد الحنفى تاجر الكتب الذى انطلق خارجا من اليمامة قاصدا فى البدء بغداد بعد أن قرر إنقاذ مجموعة من الكتب لكبار الفلاسفة، والتى كانت البلاد فى تلك الآونة تنضح بالكراهية لمثل تلك الكتب، لكن مزيد قرر أن ينقذها عن طريق تمريرها وبيعها لأفراد تلك الجماعة التى تعنى بهذه الكتب بل وتتهافت عليها(سراة الغرانيق) الذين سموا على اسم ذالك الطائر المهاجر الأبيض.
بداية الرحلة التى انطلق فيها مزيد قاطعا الجزيرة العربية والذى التقى فى القافلة التى رافقها إلى بغداد أنواعا من الناس لم يختبرهم من قبل، منهم تاجر العطور، والذى دفع شذا عطوره ورونق جمال قنيناتها مزيدا إلى تأملها طويلا، وهو لم يكن يعرف لها أسماء من قبل، وعرَفه بها التاجر.
أيضا عرف فى القافلة هذين الأخوين اللذين انضما فيما بعد لجماعة فى بغداد تحارب كل النتاج الثقافى والعقلى، وكان مزيد يشعر بدواخل نفوسهم وعقلهم فلم يطلعهم لمرة على اسرار كتبه وتخلص من رفقتهم قبل أن يصل بغداد، لكنه التقى بهم هناك صدفة.
ربما ضاع مزيد فى رحلته؛ فهو الإعرابى ساكن الصحراء، لكنه رُزق بالوصايا السبع التى أنارت له طريقه واهتدى بنورها لنهاية الرحلة، فما كان يجد ضائقة ولا شأن من شؤون الحياة إلا وتذكر تلك الوصية التى تحذره منها، فيعتدل الطريق أمامه، لكنه ما كان يفهم هذه الوصايا ولا كان قد استفاد منها إلا لأنه لم يكن ذالك الساذج الجلف الصحراوى كما هو شائع عن ساكنى الصحراء، لكنه كان ذلك المثقف الذى ما أن يحل فى أى موضع حتى يبدأ فى البحث عن المكتبة والكتب وحلقات الدرس فى المساجد، حتى قبل أن يبحث عن مكان المبيت والطعام.
فى رواية مسرى الغرانيق لم تخبرنا الروائية "أميمة الخميس"فقط عن قصة مزيد ولا عن شغفه بالعلم وحمله مسؤولية إيصال هذا العلم لمن بعده والحفاظ عليه، لكنها أيضا رسمت لنا خريطة تخبرنا عن جغرافيا شبه الجزيرة العربية ومن بعدها العراق الحبيب والقدس مروراً بمصر ووصولا إلى شمال إفريقية؛ حيث كانت الوجهة إلى الأندلس، لكن على الرغم من امتداد البلدان التى تنقل فيها مزيد إلا أن اليمامة بلده التى ولد فيها ولا تزال تعيش أمه هناك حاضرة فى كل بلد يحط فيه، رغم أن الصورة الظاهرة أن مزيد ترك اليمامة بعد موت جده والذى كان يعتقد أنه هو فقط صلة الوصل بينه وبين اليمامة، لكنه اكتشف فى الترحال المستمر أن اليمامة لم تفارقه أبدا.
لكن مادام هناك رسم لخريطة فلن تجيء هكذا دون الإخبار عن تاريخ تلك البلدان المذكورة فيها. ففى القرن الرابع الهجرى، زمان حكي الرواية، كانت المنطقة العربية تموج بالحروب الفكرية والمسائل العقلية التى قطعت على إثرها الرءوس وذالك عندما برزت فى الأفق قضايا أتهم أصحابها أو من خالف فيها الرأى الرسمى بالهرطقة وكان مصيره القتل أو السجن فى زنازين فى أعماق الأرض، وكان هذا هو السبب الرئيس فى تكوين الجماعة السرية التى انضم إليها مزيد، فهؤلاء يريدون تداول العلم دون أن يقبض عليهم أو يقتلوا أو يتم رميهم بتهمة الإلحاد والكفر.د، ومن تلك القضايا قضية خلق القرآن ومنهج المعتزلة فى التفكير وإعمال العقل.
فى رحلة مزيد تنوعت أسباب انبهاره من ذلك العالم الواسع الذى اكتشفه لتوه، فكانت بداية الرحلة "بغداد" والتى شاهد فيها كم من التنوع فى كل شيء: الثقافة، المظاهر الحضارية، أشكال الناس وألسنتهم، مستوياتهم المادية والاجتماعية، ذهل من كل هذا مما جعله يسخط بعض الشيء من محدودية تكوينه وتربيته وشكله، فعندما دعى إلى اجتماع صاحب الخان اضطر إلى اقتراض ملابس ملائمة للمناسبة، وكان ذالك بعد أن أمره صديقه المصرى الذى كان يلقبه ب"الصحراوى الجلف".
تتميز رواية مسرى الغرانيق بعدة أشياء:
أولها: أنه على الرغم من كبر حجم الرواية والتى تقع فى أكثر من 500 صفحة، إلا أن القارئ لن يشعر لوهلة بأى ملل، وذالك للتنوع المخطوط فى كل صفحة، فتنوعت الرواية بتنوع مراحل الرحلة، وبتنوع البلدان التي نزل بها بطل الرواية، فكل مرحلة من هذه المراحل تصلح أن تكون رواية بحد ذاتها، فلا يشعر القارئ بطول القص.
ثانيا: الرواية اختلفت ذلك الاختلاف الحميد، فعادة تحكى الرواية عن البشر، عن الملوك، عن قضية بذاتها، لكن فى مسرى الغرانيق جعلت الكاتبة من خريطة العالم العربى ومدنه هى البطلة، فعرفنا عن بلدان لم نرها من قبل. سافرنا مع مزيد ورافقنا قوافله.
ثالثا: تلك النهاية التى لم يتوقها القارئ، ربما لم يتوقعها مزيد نفسه، ففى نهاية الرحلة بعد أن كان مزيد يطمح فى الوصول إلى الأندلس، إلى أن أُلقى به فى سجن فى قرطبة، ولم يتبق من الوصايا التى أنارت له الطريق وهو حر سوى تلك الوصية التى فطن إلى كنها وهو حبيس.
"أحرق كل الوصايا حتى لا تتحول إلى كهنوت يسجنك بين قضبانها، الحياة أعظم من تعاليم ووصايا، الحياة منزلقة وسادرة فى عالم التحولات لا تستقر على حال، الزمان يسيل ولا شيء يبقى، كل مخلوق يغادر مكانه ولا أمر يبقى ثابتا...فقط صبوة المعرفة هى أم الفضائل"
وقد كان، فقط غنم مزيد من رحلته المعرفة، فنعم المغنم.