القاهرة 09 يوليو 2019 الساعة 11:25 ص
ترجمة: سماح ممدوح حسن
الجزء الأول
ربما هى حادثة
ظهر يوم الجمعة العشرين من يوليو 1714، انهار أعظم جسر فى دولة "بيرو" كلها، وسقط خمسة عابرين فى الخليج أدناه. كان الجسر مقام على الطريق العلوى ليربط بين مدينتي "ليما" و"كزوكو". يوميا يجتاز هذا الجسر مئات المسافرين. كانت شعوب "الأنكا"* القدماء هم من بنى هذا الجسر من أغصان الأشجار منذ ما يزيد على مائة عام خلت . كان الجسر عبارة عن ألواح خشبية تتأرجح فى نطاقها الضيق، مع ذلك (الدرابزين) المعقود من أغصان الكروم الجافة.
الخيول، والسائقين، والمقاعد، كلهم سقطوا مئات الأقدام بالأسفل ومروا جميعا فوق سيل العوامات السائح فى الخليج الضيق. لكن لم ينزل حاكم المدينة ولا رئيس أساقفة "ليما" مع تلك الأمتعة ولم يعبروا إلى جسر "سان لويس راى" الشهير.
"الأنكا"*: هم شعب أكبر إمبراطورية والذين أقاموا حضارتهم فى أمريكا الجنوبية فى العصر قبل الكولمبى وسكانها من الهنود الحمر. وكانت حضارتهم تشمل شعوب بوليفيا وألبيرو والإكوادور(المترجمة)
كان القديس"لويس" قديس فرنسا، يحمى ذلك الجسر باسمه وبتلك الكنيسة الطينية الصغيرة التى بناها على الجانب الآخر من الطريق. لذا فقد كان الجسر من تلك الأشياء التى يبدو أنها تعيش للأبد، ولم يكن من الوارد أن ينهار.
فى تلك اللحظة التي سمع فيها مواطني "البيرو" عن حادث انهيار الجسر لم يجل فى ذهن أحد منهم إلا فكرة واحدة، هى أنه كان من عابرى الجسر مؤخرا وكان ينوى العبور مرة أخرى. لذا كان الناس يجولون فى المدينة فى حالة تشبه الغيبوبة من الذهول، وهم يتمتمون ويتخيلون أنفسهم يسقطون فى الخليج.
فى تلك الحادث قدمت الكاتدرائية خدمة جليلة. لقد قاموا بتجميع كل أشلاء الضحايا، تقريبا، وقاموا بفصلها بعضها عن بعض. وبعدها ساد مدينة "ليما" الجميلة حالة عاطفية، أفئدة الناس أصبحت رقيقة. فقد أعادت الخادمات ما سرقناه من عشاقهن، زوجات المرابين كنا يتشاجرن مع أزواجهن بغضب دفاعا عن المقترضين لتخفيف الفوائد.
حتى الآن أضحى الحادث هو الحدث الأعجب الذى تشهده مدينة "ليما" خاصة وأن هذا البلد عندما تقع فيه مثل تلك الكوارث والتى يسميها المدافعون وهم مصدومين "أفعال الرب" كانت حادث كهذه أكثر كثيرا مما يقع عادة. فكثيرا ما كانت أمواج المد تعلو ويخرج البحر حتى يصل إلى المدن، أو يضرب الزلزال المدن كل اسبوع وتسقط الأبراج فوق رؤوس الرجال والنساء الطيبين طوال الوقت. ورغم أن الأمراض كانت تموج داخل وخارج الأقاليم، واطاحت الشيخوخة بأغلب المواطنين الرائعين، لذا فقد كان من المستغرب أن يؤثر مثل هذا الحدث ويصيب المواطنين البيروفين بهذه الصدمة بعد سقوط جسر "سان لويس راى".
تأثر الجميع بالحادث ماعدا شخص واحد، هو الوحيد الذى لم يأتي بأي ردة فعل على ما حدث. كان هذا الشخص هو الأخ "جينوبير" ومن خلال بعض الصدف الاستثنائية للغاية جعلت من هذا الأخ مشتبه به فى تدبير هذا الحادث. هذا الأصهب الفرنسيسكاني* الآتي من الشمالى الإيطالي كان وقتها فى ال"بيرو" يحاول تبشير الهنود بالمسيحية وكان شاهدا على الحادث.
كانت ظهيرة حارة للغاية، ظهيرة مهلكة. كان حينها الأخ" جينوبير" يقف على حافة التل يمسح جبينه ويحدق إلى الصفحة الثلجية التى تغطى كل المساحة والمرتفعات حوله، ويلقى نظرة على الممر الضيق الغارق فى الظلمة اسفله والمغطى بالأشجار والطيور الخضراء، واجتاز الممر بنظرة عبر أشجار الصفصاف.
حينها كان الأخ "جينوبير" مبتهجا، فلم تكن أموره حينها سيئة، فقد أعاد افتتاح عدة كنائس قديمة كانت مهجورة من قبل وقد أقبل الهنود إلى قداسة مبكرين يرنمون فى لحظة كأنها معجزة، كما لو كانت قلوبهم تستريح عنده. أو ربما كان السبب فى ابتهاجه هو ذلك الهواء النقى الآتي من الثلج ولربما السبب كان ذكرى لقصيدة أنعشته للحظة جعلته يرنو ببصره إلى التلال البعيدة. على أى حال كان حينها يشعر بالسكينة. وعندها حدق فى الأسفل ناحية الجسر وفى لحظة علا صوت ضجيج وملء الهواء كأنه صوت آلة موسيقية تصدح فى غرفة مهجورة، ورأى انهيار الجسر وسقوط خمس رؤوس تشبه النمل وتتلوى ساقطة إلى الوادى ادناه.
أى أحد مكانه كان سوف يهمس لنفسه ببهجة ويقول" بعد عشر دقائق كنت أنا نفسى سوف........"لكن كان هذا الأخ "جينوبير" والذى لابد وأن تطرأ على ذهنه فكرة أخرى ك" لماذا حدث ذلك لهؤلاء الخمس تحديدا؟". لو كان للكون خطة، لو كان هناك أى نمط للحياة البشرية، بالتأكيد كان سوف يكشف غموضها الكامن فى تلك اللحظة بالذات حيث قطعت فيها تلك الحيوات فجأة. أيضا، نحن نعيش بالصدفة ونموت بالصدفة، أو أننا نعيش وفق خطة ونموت أيضا وفق خطة. وفى تلك اللحظة عزم الأخ "جنيوبير" على الوقوف على الحياة السرية لهؤلاء الأشخاص الخمسة واستكشافها، ولحظة سقوطهم فى الهواء فجأة، والسبب وراء موتهم.
الفرنسيسكان: هي رهبنة في الكنيسة الكاثوليكية، تأسست على يد القديس فرنسيس الأسيزي في شمال إيطاليا في القرن الثالث عشر تحديدًا عام 1208(المترجمة)
بدا الأمر للأخ "جنيوبير" بأنه أنسب الأوقات لإبراز علم اللاهوت ليأخذ مكانه بين العلوم الأخرى، وهو الذى كان يسعى إلى ذلك منذ وقت طويل لكنه لإثبات ذالك كان فى حاجة إلى معمل. أووه، لم يكن هناك أى نقص فى عينات الاختبار. فجميع أتباعه من هؤلاء الذين لدغتهم العناكب، ومرضت رئتهم، أو احترقت منازلهم، أو حتى حدث مصاب لأطفالهم. أى كارثة من هذه لابد وأنها أطاحت بعقولهم. لكن كل هذه الكوارث البشرية لم تكن صالحة تماما لتخضع لاختبار علمى. فهذه الحوادث تفتقر إلى ما يسميه العلماء "المراقبة المناسية" فهذه الحوادث سواء نتيجة الخطأ البشرى أو كانت مقصودة، فهى لا تزال تفتقر لتلك المراقبة.
لكن بالنسبة لحادثة جسر "سان لويس رأى" فهى حادثة إلهية محضة، وقد وفرت المعمل المثالى للتجربة. هنا على الأقل يستطيع المرء أن يختبر إيمانه فى حالة نقية.
أنت وأنا، يمكننا توقع ذلك من أى شخص، لكن بالنسبة للأخ "جنيوبير" فهذه الحالة تمثل له زهرة الشك المثالى. لقد تشابه عمله هذا وعمل هؤلاء الأشخاص ذوى الأرواح المتعجرفة الذين أرادوا أن يسيروا على أرصفة السماء فبنوا أبراج بابل للوصول إليها. لكن بالنسبة للقس الفرانسيسكانى لم تشوب تجربته أى شائبة شك مثل هؤلاء. فهو كان واثق من الإجابة من دون التجربة، لكنه فقط يود لو يثبت ذلك تاريخيا ورياضيا لأتباعه. أتباعه المساكين العنيدين، هؤلاء البطيئين فى إيمانهم بأن وجود الألم فى حياتهم لهو شيء فى صالحهم. فدائما ما كان الناس يطلبون أدلة وإثباتات دامغة، فالشك شيء أصيل فى قلوب البشر. حتى فى البلدان التى توجد فيها محاكم التفتيش* وتستطيع أن تعرف أفكارك من عينيك.
محاكم التفتيش: أنشئت بالأساس لمعاقبة هؤلاء الذين تحولوا من المسيحية إلى اليهودية والإسلام، ثم أصبحت تعاقب من تحول عن المذهب الكاثوليكى أسسها الملوك الكاثوليك فرناندو الثاني وإيزابيلا الأولى في 1478 بموافقة البابا سيكستوس الرابع.(المترجمة)
لم تكن تلك المرة الأولى التى حاول فيها الأخ "جنيوبير" اللجوء إلى مثل هذه الأساليب، غالبا فى الرحلات الطويلة كان يتبع ذلك المنهج (الإسراع من إبراشية لإبراشية حاصرا رداءه حتى الركبتين، من العجالة) ويستغرق فى حلم تلك التجربة التى سوف تفسر طرق الرب إلى الإنسان.
على سبيل المثال، سجل كل صلوات المطر(الاستسقاء) ونتائج هذه الصلوات, كان يقف على عتبات واحدة من كنائسه الصغيرة ويركع رعاياه أمامه على ركبتهم تحت قيظ الشمس، وعادة ما يمد أذرعه إلى السماء ويشرع فى الطقوس المبهرة. ليس فى كل مرة، لكن هناك بعض الأوقات شعر فيها أن الورع يغمره وبعدها يرى سحابة صغيرة تشكل فى الأفق فوقه. وأسابيع أخرى كانت تمر دون.......لكن لماذا أفكر بهم؟ فهذا لم يكن من طبعه، لكنه دائما ما كان يحاول إقناع المطر أن يقسم هذا الجفاف بحكمة.
ومن هنا زاد تصميمه لحظة وقوع الحادث. لقد ساق إليه الحدث ما كان مشغول به طوال ست سنوات يقرع من أجله كل الأبواب فى مدينة "ليما" وهو يسأل آلاف الأسئلة ويدون العشرات من محاولاته فى دفاتره، يدون كل مجهوداته التى بذلها لإرساء حقيقة أن كل من هؤلاء الخمسة الذين قضوا فى حادث الجسر كان موتهم شيء مثالي.
الجميع يعرف بأنه كان يعمل على نوع من التذكار عن الحادث لذا فقد تعاون الجميع بكل حماس وبكل خداع أيضا. قليلون فقط هم من فطنوا إلى الهدف الأساسى من هذا العمل وهؤلاء هم كانوا الأتباع الأكثر إيمانا وكانوا فى مكانة عالية.
نتيجة هذا الجهد الهائل كان كتاب ضخم كما سنرى لاحقا، لكن تم حرقه فى وقت لاحق فى ميدان عام، وبشكل علنى، فى صباح يوم ربيعى رائع. لكن كانت هناك نسخة سرية، وبعد عدة سنين ودون سابق إنذار سوف تستطيع هذه النسخة إيجاد طريقها إلى مكتبة جامعة"سان ماركو"*كانت نسخة بين غلافين خشبين، وجدت مغمورة فى الغبار فى أحد المخازن. وتسرد تلك النسخة قصة الضحايا واحدا تلو الأخرى من ضحايا حادثة الجسر.
جُمعت آلاف الحقائق والحكايات والشهادات، ومنتهية بفقرات من استنتاجات عن الأسباب التى من أجلها اختار الرب هؤلاء الأشخاص فى هذا اليوم للدلالة على حكمته.
رغم عمل الأخ "جنيوبير" المضنى إلا أنه لم يعرف أبدا شيء عن حياة "دونا ماريا" العاطفية، ولا عن العم "بايو" ولا عن "استيبان". وربما أنا، والذى أزعم انى اعلم الكثير أليس من المكن أن يكون فاتنى أكثر؟
يقول البعض أننا لن ندرك ذلك أبدا، لكن ربما نكون بالنسبة لآلهة كالذباب الذى يقتله الأولاد فى يوم صيفى، والبعض الآخر يقول العكس من ذلك، وحتى العصافير لا يمكنها أن تفقد ريشة إلا إذا كان ذلك بلمسة من أصابع الرب.
_____________________
(جامعة سان ماركوس الوطنية) هي جامعة مستقلة في ليما (البيرو)، تم إنشائها في 12 مايو عام 1551 بطلب من شارل الخامس، وبذلك فهي تعتبر حتى اليوم، أقدم جامعة في القارة الأمريكية.(المترجمة)
.