القاهرة 09 يوليو 2019 الساعة 09:32 ص
كتب: د.محمد السيد إسماعيل
سوف أستعير – بداية – فى مقاربة هذا الديوان – أو جانب منه – تقنية سردية تعرف بتقنية " الراوي التقريبي " وهو ذلك الراوي الذى يتوجه مباشرة إلى المتلقي مستخدما ضمير المخاطب ، وعلى الرغم من شكلية هذه الملاحظة فإن البدء بها أو بالتشكيل عامة مدخل ضروري لاستشراف الرؤية التي يسعى إليها الشاعر أو تسعى إليها قصيدته فنحن – هنا – أمام شاعر يستحضر المتلقي الضمني دائما ويتوجه إليه بالخطاب بما يوحى بوجود " رسالة " ما يود تأكيدها ففي قصيدة " العالم من دوننا يتيم " تقوم الجملة الاعتراضية بتحديد جهة الخطاب وتأكيدها.
يقول متحدثا عن ذلك العالم الذى يشعر باليتم من دوننا أو حين لا يرانا : " فى أى متاهة أخرى / يمكن أن يراك ؟ /- أنت نفسك ياعزيزى - / حين تسدد هدفا فى روحك / ثم تصيح فرحانا / كآخر من أنجبته الخسائر " ( " الأيام حين تعبر خائفة " محمود خير الله ص21الهيئة المصرية العامة للكتاب 2018) .
فالقصيدة عند محمود خير الله – على مدار دواوينه كلها – ليست مجرد فعل جمالى حيث تتأكد وظيفيتها دائما مستلهمة ما تباشره على مستوى الواقع وتشعيره برهافة واضحة من خلال ما يعرف بالانحراف أو العدول الذى يخرج عن أفق التوقع حين نقرأ – مثلا- " كالذنوب والخطايا / كسن معدنية تلمع فوق شفاه قاتل / كشمعة / كطلقة فى الميدان / مصوبة منذ أعوام / لكنها لم تصل – بعد – إلى سويداء القلب " فهذه السطور كلها تشبع أفق التوقع مما يجعل الأسلوب حقيقيا تقع دواله فى دائرة دلالية متماثلة ، كما نلاحظ فى ( الذنوب – الخطايا – السن المعدنية – الشفاه – الطلقة – الميدان ) لكن لحظة العدول تقع عندما نعلم أن طلقة الميدان هذه مصوبة " منذ أعوام " وأنها على مدار هذه السنوات لم تصل – بعد – إلى سويداء القلب ، هنا تحديدا يبدأ ما يسمى بالتصور الشعرى للعالم الذى لا يلتزم – بداهة – بالعلاقات الطبيعية بين الأشياء ويبدو أن تيمة الامتداد الزمنى من التيمات التى يعتمد عليها الشاعر كثيرا حيث نجدها – مرة أخرى – فى قصيدة " اللص " التى تشبه – فى بنيتها – القصة الومضة بإيجازها ونهايتها المفتوحة يقول " حاولت مرارا أن أكون لصا / وفشلت / مرة واحدة نجحت / خطفت برتقالة من السوق / وأخذت أجرى ".
نحن – إلى الآن – أمام سرد اعتيادى لا يخرج عما هو مألوف من الرغبات والأفعال المضطردة بعلاقات سببية لكن القسم الثانى يبدأ بما يسمى بالعدول من خلال تمديد البنية الزمنية حين نقرأ " كان خصمى فلاحا عجوزا / لو كنت أخذت قلبه من بين ضلوعه / ماكان جرى ورائى كل هذه السنوات / وهو لايزال يجرى إلى اليوم " (ص39) وتمديد الزمن على مدار كل هذه السنوات يحمل – رغم مجازيته – بعدا حقيقيا فلا يزال هذا الفلاح الفقير يطارد الشاعر – حقا – بمعاناته وقضيته التى يؤمن بها الشاعر ويدافع عنها.
إن حضور هذا الفلاح والفقراء عامة فى نص محمود خير الله يجعل من شيوع دوال الموت والقتل والبكاء والصراخ والهتاف أمرا طبيعيا فهناك – دائما – حالة من الانتهاك يقول " كقبلة وداع / مزقتها صافرة القطار / كحافلة سقطت فى النهر عنوة / فتبللت جيوب الموت فجأة " كأننا أمام عالم يوشك على الزوال ، هذا العالم الذى يبدأ منه الشاعر – دائما – ويتحرك خياله انطلاقا منه وهو عالم يتحكم فى رؤيته للدوال التى شاعت فى المعجم الرومانسى حين نقرأ " ليس قمرا صدقونى / إنه آخر ما تبقى من دموع أجدادنا / الذين ماتوا فى سالف الأزمان / ببطون خاوية " (ص24) وللتعبير عن هذه العلاقة الجدلية الوثيقة بين الخيال والواقع يقدم الشاعر هذه الصورة اللافتة التى تقوم على المفارقة – أكثر من الجناس الناقص – بين يرفرف " عاريا " ويرفرف " عاليا " يقول تحت عنوان " يرفرف عاريا " :" مامن قلب يرفرف عاليا / متكئا – هكذا – على ظهر طائرة ورقية / تميل وترتفع / تحت سماء الله رائقة / بين السحب / إلا وكان طرف خيطه ينتهى / - متعرقا- / فى قبضة صبى جائع " (ص55)
هناك – دائما – ذلك الخيط الذى يربط بين التحليق عاليا والواقع البائس الممثل فى يد هذا الصبى الجائع واللافت – حقا – هو هذه اليقينية التى يقدم بها الشاعر قناعاته ويظهر ذلك فى أسلوب القصر القائم على النفى والاستثناء فى السطور السابقة كما يظهر فى العديد من الدوال والأساليب الأخرى من قبيل :" احصل على النافذة أولا / وأنا أضمن لك / أن القمر سيأتى صاغرا معها / والنجوم والشجر سوف يأتى / وإذا جاءك هؤلاء جميعا / مرة / صدقنى / سيأتى النهر معهم / دائما " (ص11) فلا أثر للاحتمال أو الظن أو الترجيح فالشاعر يضمن – بيقينية – أن كل شىء سوف يأتى – دائما – بمجرد الحصول على النافذة هذه النافذة التى تمثل أداة رؤيته للعالم واستشرافه لآفاقه وليس عجيبا أن يقول الشاعر فى موضع آخر " أنا لا أملك من حطام الدنيا سوى عينين ونافذة / أرى بهما العالم الذى يدور فى رأسى ".
مرة أخرى نجدنا أمام الحسى المباشر المدرك بالعينين والخيالى التصورى الذى يدور فى رأس الشاعر ويخلعه على العالم وما بينهما من نوافذ تؤكد هذه الصلة الدائمة بين هذين المستويين والحقيقة أن مفردة " النافذة " محورية فى هذا الديوان ولهذا فهى تعد – فى مستوى آخر – ذات بعد اجتماعى فهناك النوافذ الواطئة القريبة من الأرض وهناك النوافذ العالية التى تدل على وضعية اجتماعية متميزة وهكذا تصبح النوافذ مجازا دالا على أصحابها كما تصبح نهاياتها شبيهة بنهايات البشر بل – أحيانا – ما تتجاوز أصحابها وتكون أكثر حميمية فى علاقة الشاعر بها حين يقول " خسرت عشيقات كثيرات / لأن نوافذهن كانت أقل جمالا من سيقانهن / تفهمنى النوافذ أكثر / حين أحل ضيفا عليها / تعاملنى بأخوة وصبر / تعلمنى كيف أفتحها لتكشف البحر لى / وكيف أغلقها لأبكى ".
وما بين الفتح والإغلاق أو الكشف والتخفي أو الانفتاح والانطواء تتشكل حياة الشاعر خلف هذه النوافذ وفى السياق نفسه تأتى مفردة " الشرفات " مرتبطة بإرث وجدانى قديم منذ شرفة " جوليت " وشرفة " ليلى مراد " تمثيلا وتلعب الذاكرة دورها فى استدعاء هذا الإرث المرتبط بالألم شأنها – أقصد هذه الذاكرة – شأن مثيرات الواقع وفاعلية المخيلة التى تزرع السماء بالقلوب المرسومة بينما الشاعر عاجز عن إطلاق روحه :" ليس سهلا / أن ترى السماء مزروعة / بقلوب رسمتها يداك / وأنت عاجز عن إطلاق روحك " هكذا تدخل مفردة اليد مبدعة القصائد متجاوبة ومتكاملة مع دال " العينين " بوصفهما أداة معاينة الواقع هذه اليد التى تتحول – فى مخيلة الشاعر – إلى " طائرة تحمل فوق متنها أروع القصائد ".
والديوان – بصورة عامة – يوظف آليات السرد كما فى " علق ابتسامته فى الشرفة ...ومات " وهو سرد يستفيد من المأثورات الشعبية التى يتم تناقلها حول كرامات بعض الموتى حيث ظلت روح " مفتش الآثار " التعيس " تلوح لليمام فى السماء رغم أنهم كفنوه / قبل خمسة عشر عاما " كما يوظف تقنيات الصورة المشهدية على نحو ما يبدو فى قصيدة " رضيع " التى تصنع مفارقة بين النساء الثكلى والرجال الوجمين من جانب وذلك الطفل الرضيع الذى يعصر – غاضبا – ثدى أمه إن صفة الغضب – هنا – هى الصفة الفارقة بين الحالتين وكأن الشاعر يستشرف الغضب القادم الذى يتجاوز وجوم وسكينة الحالة الراهنة.
وأخيرا يمكن الإشارة إلى توظيف بنية القصيدة العنقودية التى تتكون من مقاطع تقوم على الانفصال والاتصال معا حيث يمكن قراءة كل مقطع كبنية مستقلة دون أن يمنع ذلك من اتصالها – دلاليا – مع المقاطع الأخرى وقد ظهر ذلك فى قصيدة " وجه أبى " التى تتكون من سبعة مقاطع أشبه بالتوقيعات الشعورية حول علاقة الشاعر بأبيه الذى جسد له أغلب دلالات هذا الديوان المتميز .