القاهرة 25 يونيو 2019 الساعة 12:02 م
كتبت: د.فايزة حلمي
إنه سؤال بسيط إلى حد ما، يتحول بسرعة إلى جوهر شعور شخص ما بالرفاهية : هل طفولتك جعلتَك تشعر بالتوازن وأنك على ما يرام كما كنت؟ أم أنك في مكان ما داخلك لديكَ انطباعًا بأنك في حاجة إلى أن تكون غير عادي لتستحق مكانًا على الأرض؟ ولطرح سؤال مرتبط: هل أنت مرتاح الآن حول وضعك في الحياة؟ أترى نفْسَك شخص استثنائي؟ أم مملوءً بالخجل على ما تراه مِن قيمتك المتوسطة بالحياة؟
سيكون حوالي عشرين في المئة منا في الفوج غير الفخوربِنَفسه، نرفض الاعتقاد بأن أي شيء يمكن أن يكون كافيًا ، أو نتّهِم أنفسنا كـ "مُخْفِقين", في المدرسة، ربما عملنا بجد للغاية ، ليس لأننا كنا منجذبين إلى الموضوعات ، ولكن لأننا شعرنا أننا مضطرون لأسباب, في ذلك الوقت, ليست واضحة تمامًا؛ كنا نعرف فقط أننا يجب أن نقترب من أعلى الصف, قد لا نكون إستثنائيين في الوقت الحالي، لكننا نادرا ما نمضي بالحياة .. دون شعور حاد بالضغط.
في مرحلة الطفولة، ربما تكون القصة قد انتهت هكذا، احتاج الوالدان إلى أن نكون متميزين, بتأثير.. الذكاء أو المَظهَر أو الشعبية، من أجل تعزيز الشعور المتخبط بأنفسهم, كان الطفل داخلهم, بحاجة إلى تحقيق ولم يستطع ذلك؛ لم تكن دوافعهم وأذواقهم جزءًا من الصورة, كان الوالدان بِصِفة خاصة - في ألم, لأنهم غير قادرين على تقييم أنفسهم، ومحاربة الاكتئاب الذي لم يكشف عن اسمه، وغاضبين مِن حياتهم ، وكانت مُهِمة الطفل، هي جعل الأمر أفضل بطريقة أو بأخرى, مِن خِلالنا!!!.
قد يبدو غريبا النظر إلى الإنجاز من خلال هذه العدسة، أولئك الذين.. شَيّدوا ناطحات السحاب، أو يكتبون الكتب الأكثر مبيعًا، أو يؤدون على خشبة المسرح، في الواقع، قد يكونون على غَيْرما يرام, في حين أن الشخصيات التي بدون صِراع, يمكنها أن تتحمل حياة عادية ، فإن ما يسمى بـ "الأوساط االقانعة" المتوسطة ، قد تكون في الواقع مِن النجوم المتألّقين عاطفيّاً ، الأرستقراطيين روحيّاً ، قَبَاطنة القلوب!.
ينقسم العالَم إلى.. الذين يمكن أن يكونوا عاديين, والمُعَذَّبِين المُلتزمين أن يكونوا رائعين وإستثنائيين، وأفضل نتيجة مُحْتَملة لهذه الفئة الأخيرة .. الانهيار! فجأة، بعد سنوات من الإنجاز، لا يَعُد بإمكان أفرادها ..الخروج مِن مَكْمَنهم, أنهم يقعون في بئرالاكتئاب العميق, ويطوّرُون قلقًا اجتماعيًا طويلًا, يرفضون تناول الطعام, ويثرثرون بلا تناسق, لقد قاموا بطريقة ما بِوَضع عَصا كبيرة جدًا في عَجلات الحياة اليومية, وسُمِح لهم بالبقاء في المنزل لفترة من الوقت.
الانهيار ليس مجرد نموذج من الجنون أو الخلل العشوائي ، بل يمكن أن يكون محاولة حقيقية للغاية, "وإن تكن غير ملائمة" للصحة!. إنها محاولة من جانب جزء من أذهاننا لإجبار الجزء الآخر على عملية نمو وفهم ذاتي وتنمية ذاتية, وإذا استطعنا أن نضع هذا في مفارقة، "فهي محاولة لإطلاق عملية تَحَسّن ، بشكل جيد، مِن خلال مرحلة من المرض الشديد", في حالة تبدو مَرَضِيّة، قد نسعى ببراعة, إلى تدمير جميع اللبِنات الأساسية لمهاراتنا السابقة, المُؤدّاة بإنقياد وبغير سعادة, ربما نحاول تقليل التزاماتنا, ربما نحاول التخلص من الخضوع القاسي لتوقعات الآخرين.
إن مجتمعاتنا التي غالبا لا تَكُن على ما يرام على المستوى الجماعي وليس فقط على المستوى الفردي, تفتقر بشكل متوقع إلى صوَر مُلهِمة لحياة عادية جيدة بما فيه الكفاية, إنهم يميلون إلى وَصْم هذ الحياة "بالخاسرة", نحن نتخيل أن الحياة الهادئة هي شيء لن يسعى إليه سوى شخص فاشل بدون خيارات, إنّنا نحدد بقسوة, "الجَوْدة", بوجودنا في المركز، تحت الأضواء.
في بعض الأحيان ، يصنع فنان أشياء, تجلب الحِكمة العميقة إلى المنزل, يقول أحد الكتّاب" Montaigne" ، في المجلد الثالث من مقالاته ، والذي كتب قبل وفاته ببضع سنوات: " إدارة سِفارة ، وحُكْم أمَّة هي أفعال باهرة حقّا, لكن الضحك ، والشراء ، والبيع ، والمحبة ، والكراهية ، والعيش معًا برفق, والعدل مع أسرَتك ومع نفسك، شيء أكثر إثارة، وأكثر ندرة، وأكثر صعوبة, ومهما كان ما يقوله الناس ، فإن مثل هذه الأرواح البسيطة, تتحمل بهذه الطريقة, واجبات صعبة مثل تلك التي يعيشها الآخرون الاستثنائيّون.
في أواخر الخمسينيات مِن القرن العشرين، رسم الفنان الهولندي يوهانس فيرمير "Johannes Vermeer"صورة تسمى "الشارع الصغير" ، والتي توضّح الهدف النهائي, في جملة مفادها: "ربما لا يكون النجاح, بعد كل شيء, أكثر مِن فترة هدوء بعد الظهر مع الأطفال، في المنزل، في شارع متواضع".
ومع ذلك ، لا تميل معظم الأفلام والإعلانات والأغاني والمقالات, إلى السير في هذا الطريق ، فهي تشرح لنا بإستمرار جاذبية الأشياء الأخرى: السيارات الرياضية ، وعطلات الجزيرة الاستوائية، والشهرة، السفر الجوي على الدرجة الأولى، والانشغال الدائم, عوامل الجذب في بعض الأحيان حقيقية تماما, لكن التأثير التراكمي لها, يغرس فينا فِكْرِة, أن حياتنا ستنتهي دون قيمة, إن لم نَكُن استثنائيين.
ومع ذلك ، قد تكون هناك مهارة هائلة وفرحة ونُبْل في ما نحن بصدده: في تنشئة طفل ليكون مستقلاً ومتوازنا بشكل معقول؛ في الحفاظ على علاقة جيدة بما فيه الكفاية مع شريك على مدى سنوات عديدة على الرغم من مجالات الصعوبة الشديدة؛ في الحفاظ على المنزل في ترتيب معقول؛ في الحصول على الكثير من الليالي المبكرة ؛ في القيام بعمل غير مُضْجِر أو بأجر جيد بمسؤولية وببهجة ؛ في الاستماع بشكل صحيح إلى أشخاص آخرين ، وبشكل عام .. "المشاركة في أن تكون على قيد الحياة".
هناك بالفعل ثروة نقَدّرها, عندما نتعلم أن نراها دون تحامل أو كراهية ذاتية, نكتشفها بمجرد تجاوزنا توقعات الآخرين، حين نعرف أن الرفاهية الحقيقية للحياة لا تَشْمَل أكثر من البساطة والهدوء والصداقة و..الحب.