القاهرة 25 يونيو 2019 الساعة 11:55 ص
كتب : أحمد مصطفى الغـر
لطالما لعبت الصحافة الثقافية دورا كبيرا في تشكيل المشهد الثقافي في المجتمع، إذ نجحت عبر تاريخها الطويل في تقديم نماذج ريادية في مجالات الآداب والفنون وإبراز نتاجهم في الحقول التي يبدعون فيها، لكن مع تطور الزمن وظهور معادلة جديدة في عالم الصحافة عموما، حدثت تغيرات جذرية تتعلق بتأثير الصحافة الثقافية وتفاعل الجمهور معها، في ضوء المعطيات الراهنة لم تعد الصحافة الثقافية تستقطب المتلقي مثلما كان يحدث قبل عقود، فما الذي أربك واقع صحافتنا الثقافية؟، وكيف يمكنها أن تواكب العصر وتعود عبر مجلاتها وملاحقها ومواقعها الإلكترونية إلى صدارة المشهد، مثلما نجحت مجالات أخرى مثل الرياضة والسياسة والفن؟
صدق نابليون بونابرت حين قال أن "الصحافة ركن من أعظم الأركان التي تشاد عليها دعائم الحضارة والعمران"، فقد نجحت المجلات والدوريات الثقافية في احتواء نتاج كوكبة من الأدباء والكتاب والمبدعين على مدار عقود مضت، مواكبةً لحضارة توارثتها الأجيال وأضافت إليها من نتاجها، فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد "إليزابيل اللندي"، التي اشتغلت بالصحافة قبل بروز اسمها في عالم الرواية، كما كان "همنغواي" أيضا، مراسل حرب من إسبانيا قبل أن يكتب "لمن تقرع الأجراس"، وكما عمل "ماركيز" لبعض الوقت بالصحافة، عربياً كان عميد الأدب العربي "د. طه حسين" رئيساً لتحرير جريدة الجمهورية، وكذلك "عباس العقاد" وغيرهم كثيرون، ومثلما نجحت العديد من المجلات الثقافية كانت هناك تجارب عديدة أيضا ناجحة لعدد من الملاحق الأدبية التي لازمت بعض صحفنا اليومية، وقد نجحت جميعها في خدمة المشهد الثقافي، من خلال ما قدمته من نقد وتحليل ومناقشة، كما لا يمكن إنكار دورها الهام في ربط أدبنا وثقافتنا بالعالم عبر التعريف بجديد الثقافات في الدول الأخرى، إلى جانب اكتشاف الرؤى الجديدة والأصوات الأخرى من خلال الترجمة، فالصحافة الثقافية تشكل ذراعا فاعلة للثقافة في أي بلد، ووسيلة فاعلة للتعبير عن ثرائها، والدفاع عن منظومة قيم وهوية شعبها، ونشر الإبداعات وتشجيع المبدعين، ووسيطا مهما من وسائط القوة الناعمة بقدر ما تسهم في تشكيل الوجدان العام للمجتمع، ورغم هذا التراث المضيء والدور الفاعل للصحافة الثقافية العربية عموما، والمصرية خصوصاً، إلا أن جميع الشواهد تؤكد أن الصحافة الثقافية في محنة، وهى جزء مما يوصف بأزمة الصحافة وتحديات الإعلام في العصر الرقمي.
لطالما كانت الأوضاع المادية المتدنية هى الدافع الأول للكثير من الدوريات الثقافية إلى التوقف عن الصدور، ولم يشفع لها أن الكثير من الأسماء اللامعة تكتب بها، أو المجهود الخرافي المبذول في الإعداد لها، لكن ثمة عوامل أخرى ساهمت بدورها في ضعف الصحافة الثقافية، منها انعدام المنافسة، وإرتفاع أسعار الورق ومستلزمات الطباعة، وغياب التخصص بين الصحفيين الثقافيين الذي يعالجون المحاور الثقافية المختلفة وهو ما يؤثر بدوره على جودة المحتوى، بل يزداد الأمر سوءً عندما نعلم أن بعض المشرفين على تحرير الصحف ومدراء نشرها، يعاقبون أضعف الصحفيين ويوجهون حديثي التعيين منهم إلى الصفحات الثقافية، في حين تُكرّم الصحافة البريطانية - مثلا - رجالها الذين قطعوا أشواطا كبيرة في العمل الصحفي، بمنحهم شرف تحرير الصفحات الثقافية. يُضاف إلى ذلك ابتعاد الناس عن القراءة بشكل عام في ظل انتشار الأمية الثقافية، فقد أشاح الناس بأبصارهم واهتماماتهم عن القراءة لمتابعة وسائل الإعلام الجديدة، في ظل هيمنة الصورة على الكلمة، لا لأن الصحافة التقليدية لا تقدّم جديدا، لكن بسبب المحتوى والمضامين شديدة المعاصرة التي يقدمها الإعلام الاجتماعي الجديد، ومازالت الصحافة التقليدية تكافح من أجل اللحاق به صوب التحديث الشامل، ففي ظل الانفجار المعلوماتي والتقني الذي يشهده العالم منذ سنوات قليلة، فإن الثقافة الإلكترونية تشكل الحل الأمثل، ولعل هذا ما دفع بعض الدوريات الثقافية إلى الاكتفاء بالصدور الرقمي، والاستغناء عن الهيئة الورقية، بالتوازي مع تغيير أفق ونمط الكتابة ذاتها، وانتهاج ما يناسب القنوات الثقافية الجديدة.
لم يخطئ أمير الشعراء "أحمد شوقي" حين قال أن "لكل زمان آية، وآية هذا الزمان الصحف"، وإذا كان شوقي قد قصد الصحف الورقية في زمانه، فإن هذه المقولة تستقيم الآن فقط إذا طبقناها على الصحف الإلكترونية، لكن على أي هيئة صدرت الصحافة الثقافية إلكترونيا؟، بمعنى هل واكبت تحول عالم الصحافة نحو الرقمنة؟، هل ظهرت مواقع ثقافيةٌ متخصصة؟، للأسف لا يوجد أي محتوى رقمي حداثي مرتبط بالصحافة الثقافية المصرية بالمعني الذي يمكننا من القول بأن لدينا صحافة إلكترونية ثقافية عصرية وغنية، فالأمر محدود جداً ويظهر على شكل أقسام في مواقع إلكترونية إخبارية، تهتم بأخبار الفعاليات والندوات أو مجرد مواد منسوخة من مواقع عربية أخرى، في حين نجد أن معظم الأدباء والشعراء والمثقفين يكتفون بنشر إنتاجهم الإبداعي، أو أخبار فعالياتهم في صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي مثل "فيس بوك" و"تويتر".
أما الصفحات الثقافية التي تصدر كجزء من الجريدة اليومية، فإنها ليست أحسن حالاً من المطبوعات الثقافية الكاملة، ففي أي صحيفة يومية تكون صفحات الثقافة هى الضحية الأولى دوما، في حالة الاضطرار إلى تأجيل صفحة ما أو حذفها، وعلى خلاف الصحف العالمية التي تحتفي بالثقافة كجزء أصيل من صفحاتها ولا يمكن تأجيله، فإن صحفنا تعتبرها صفحات مكملة، ولا تعطي لها أهمية بنفس الدرجة التي تعطيها للرياضة، أو الجرائم، أو حتى أخبار الفن والطرب، ففي الوقت الذي قد تحظى به مطربة ناشئة بحوار على صفحة كاملة، أو أن خبر عن تغريدة عابرة لإحدى الراقصات على تويتر يعظى بصورة كبيرة وعنوان ضخم، فإن خبراً عن كتاب جديد يكون في زواية صغيرة ومهملة، يكاد يُقرأ بصعوبة، هذا بخلاف حرمان الصفحات الثقافية من الاخراج الفني المميز أو التلوين أو العناوين الكبيرة والتشويقية، ومع اقتصار الصحافة على الخبر الثقافي السريع، والتغطية السطحية للفعاليات الثقافية، فإن هذه الصحافة في عمومها لا تلبّي حاجة القارئ المعرفية والتثقيفية.
الحديث عن واقع الصحافة الثقافية الورقية أمر صعب، وتزداد صعوبته مع الأزمة التي تواجه الصحف الورقية هذه الأيام، خاصة في ظل ضعف التمويل، ومشكلات التسويق والتوزيع، إضافة إلى كون الصحافة الثقافية غير جاذبة للإعلانات التجارية مثلما يحدث مع الصحافة الرياضية أو الفنية، وكذلك اعتماد الصفحات الثقافية على ما هو موجود على الساحة بالفعل، عوضاً عن السعي إلى صنع حالة ثقافية جدلية، كما أنها لا تعير اهتماماً إلى تكوين خطاب فكري أو ثقافي أو أدبي، وللعلاقات التي قد تربط أصحاب النصوص بأصحاب المنابر، وهو ما ينعكس ضعفا أو هبوطا وترديا في الحياة الثقافية وصحافتها، وفي بعض الحالات نجد أن تلك الدوريات غير تمثيلية لكل الأطياف والحقول الثقافية، ونلاحظ إغراقها في لغة لا يفهمها البسطاء، فيما يمارس بعض كُتابها التعالي وكأنهم يكتبون لأنفسهم، زيادة على ضرورات الشكل والتقديم.