القاهرة 04 يونيو 2019 الساعة 12:25 م
قصة : باسم عثمان
اليوم رحل آخر المُعزين في وفاة أبي.
لم يبقي سواي أنا وأمي.
الأقارب الأصدقاء الجيران .. حتي أختي رحلت مع زوجها.
كان دائما يخبرني أن هذا اليوم سيأتي, وكم طلب مني أن أكون رجلا وقتها ولم أفهمه قبل الآن.
كم تحتاج إلي أمي الآن, كم نحتاج سويا هذا الشعور بأن لا شيء تغير.. كل هذه السنوات وأبي يفعل كل شيء في المنزل.. يحكي مع هذا ويسمع ذاك ويطيب خاطر هذا.. لم أرها أبدا غاضبة منه, كان قادرا علي دفعها للابتسام في لحظة, وكان يلتفت لي دائما ويطلب مني أن أعامل زوجتي بنفس الشكل؛ فالنساء يا ولدي أجمل ما في الدنيا .. كان يقول هكذا دائما.
لم أستطع النوم بعد رحيل الجميع. دخلت غرفة مكتب أبي لأول مرة منذ رحيله, كان دائما يمكث فيها, حتي في أيام مرضه كان يجلس ليقرأ, يكتب أحيانا, يستمع للموسيقي دائما.. شريط الكاسيت القديم.. صوت المغني غير واضح والموسيقي تبدو كما لو كانت سُجلت منذ ألف عام, وكأنها قد آتت من عالم قديم مختلف عما نعيشه اليوم.
أوصاني أبي بأمي وأختي ومكتبته والكاسيت الذي اشتراه من الخليج منذ سنوات.. رأيت جدتي عندما كنت صغيرا ورحلت مبكرا. بكى أبي يومها كما لم أره يبكي أبدا. دخل غرفة مكتبه وبقى بها طوال الليل. جلست خلف الباب في انتظاره خائفا عليه. أطفأ الأنوار, وأدار شريط كاسيت قديم بصوت متحشرج يغني بالنوبي.. لم أفهمه يومها ولم أحاول. كان يسمع نفس الشريط كلما حدث شيء, أو شريط آخر, ربما لم أستطع تميز الكلمات والألحان تبدو متقاربة دائما.
كان دائما ما يحكي عن جدي الذي رفض الرحيل.. حاولوا معه وفشلوا.
كل القرية من أكبرها لأصغرها ورفض, قرر أن يبقى وقرروا أن يحملوه معهم بالقوة؛ فالطوفان لن يبقي ولن يذر.
ولم أفهم أبدا لماذا يصر شخصا ما على البقاء في المجهول.
وسط اللاشيء.
قرية فقيرة بعيدة عن العمران والمدنية.
يبكي أبي كلما تذكر حكاية جدي.
قرر ألا يغادر, وقررنا أن نحمله بالقوة.
و لكن أراد الله أن يحقق حلمه؛ فمات قبل الرحيل بساعات, وتأخرنا لدفنه في المكان الذي أراده دائما بجوار والده.
كان ينهي الحوار قائلا: كم أتمنى أن أُدفن بجوارهما.
وكان قلبي ينقبض كلما قال هذا.
فتحت درج أبي .. وجدت بعض الأوراق وتحتها شريط كاسيت مكتوب عليه بالقلم الجاف فوق استيكر قديم وبخط واضح "أغاني نوبية"..
ربما كان هو.
أخذته من الدرج
أدرت الكاسيت.
نفس المزيكا.
ربما
نفس الكلمات.
لم أفهم شئ.
أطفئت الأنوار..
جلست على كرسي مكتبه وبكيـت.
فاليوم رحل أبي .. ورحل معه عالمه.