القاهرة 04 يونيو 2019 الساعة 12:11 م
الكاتبة التونسية زهرة الظاهرى: شهر الصوم لم يكن ثاقبا للجيوب بل كان خيرا وفيرا
كتب: صلاح صيام
نواصل الحديث عن شهر رمضان الكريم فى حياة المبدعين, وتأثيره عليهم, وذكرياتهم معه, وهم بلا شك أقدر على وصف مشاعرهم, ونقل صورة بلاغية جميلة للقارىء, واليوم موعدنا مع الكاتبة التونسية زهرة الظاهرى التى قالت :
من منا صام الشهر كاملا في صباه ؟
يالرمضان في الصبا ويالتلك الأيام المحفوفة بالمكر الجميل
أذكر حين كنت طفلة أنني كنت وإخوتي ننتظر شهر الصيام انتظار المشتاق لحبيبه البعيد, وفيما كان والدي يتذمر أحيانا من المصروف الزائد, وأحيانا يهلل بحلول الشهر المبارك مرددا " سيدي رمضان يأتي جالبا رزقه معه " كنا نحن الصغار ننتظر رمضان على شغف كبيرلم نكن نفهم معنى كلمات أبي لكننا حفظناها وربما رددناها في كبرنا ولو خلسة، لأن رمضانهم لم يكن أبدا كرمضاننا . لم يكن ثاقبا للجيوب ولا مسرفا , كنا في عهدهم نرضى بالنزر القليل ونحتفي به بكونه خيرا وفيرا وعارما.
كنا نكتفي بالبريكة الملطخة في الزيت والخالية إلا من بعض حشو, وكنا نشرب الحليب الذي تجود به جارتنا مباشرة من ضرع البقرة دون أن نتحسب للأمراض, وكنا نأكل شربة الحمام الذي كان والدي يربيه فوق سطح منزلنا الهش خصيصا ولم نكن نتحسب للأمراض, فلم تكن ثمة ما نسميه اليوم بجنون البقر أو انفلونزا الطيور . كان كل شيء مسالما ، ربما رأفة بفقرنا .. وكنا كل يوم نتنافس من منا يستطيع صيام اليوم كاملا خاصة إذا ما منت علينا والدتنا بوجبة السحور .
وجبة السحور تلك كانت أجمل ما في رمضان .. كانت طريقتنا الماكرة لاختبار أمي أينا الأحب إليها فتوقظه خلسة عن البقية ليغنم بنصيبه من الكسكسي واللبن الذي لالذة تفوق لذته . أذكر أني كنت أستاء كثيرا إذا ما طلع النهار ولم أحظ بتلك الوجبة فيما يحظى بها الآخرون, وكنت أصمم أن أصوم اليوم نكاية فيما كنت أعتبره خيانة من أمي . وكم كان يزعجها ذلك فتلح علي بضرورة الإفطار في هذا اليوم على أن توقظني ساعة سحور الليلة القادمة . كانت أمي تشفق علي لأنها تعلم أني لو تسحرت فإني سأصوم كامل اليوم على عكس إخوتي الذين كانوا يتظاهرون بالصيام فيما تباغتهم يأكلون خلسة ما تبقى من عشاء ليلة البارحة . وأمام عنادي وإصراري على الصيام دون سحور، دعتني أمي وشأني بعد أن قال أبي " دعيها .. ألا تعرفين أنها طفلة عنيدة " ظللت معتكفة على نفسي، أتضور جوعا وعطشا وكان جسدي هزيلا لا يحتمل سطوة الجوع والعطش ساعات اليوم التي طالت أكثر مما يجب, وحين تأكدت من أن الجميع خلدوا إلى قيلولتهم الطويلة، عمدت إلى ركن الدار الذي كنا نسميه " مطبخا " وأكلت في نهم ما أتت عليه يداي ثم قمت بمسح فمي على الجدار حتى يصبح لون شفتي أبيض، شاحبا بفعل الصوم .. هذه الطريقة كنت تعلمتها عن ابنة جارتنا سعيدة التي تكبرني بسنوات ومازالت حتى اليوم تخاتل رمضان, وعدت إلى مخدعي ولم أقم إلا قبيل اذان المغرب بقليل, وهكذا وكمن يضرب عصفورين بحجر واحد، عفيت من مساعدة أمي وأختي الكبرى كما أقسمت لي أمي بأن وجبة السحور لتلك الليلة ستكون من نصيبي شريطة أن أعدها بأني لن أصوم إلا نصف النهار الأول فقط، رأفة بجسدي الهزيل...
ويمر رمضان صاعدا ثم نازلا حتى يوشك على نهايته .. أذكر أنه في العشر الأواخر من رمضان، كان والدي يحدثنا عن ليلة القدر وعن أبواب السماء التي تفتح للسائلين، المتضرعين إلى الله فيتقبل الدعاء ويلبيه.