القاهرة 04 يونيو 2019 الساعة 11:37 ص
كتبت: د. هـنـاء زيــادة
يعيش السيد "ترومان"، الموظف في شركة التأمين، حياة عادية للغاية، أحداثها مملة وتتكرر كل يوم على نحو يدعو إلى الإفراط في الملل، فيها نفس المواقف بحذافيرها تحدث بشكلٍ يومي، صحيح أنها حياة هادئة برفقة زوجته الشقراء الجميلة، إلا أن "ترومان" يشعر دومًا أن شيئًا ما ينقصه،حيث يرغب في البحث عن حب قديم، وأن يسافر ويجوب العالم، ولكن العوائق تقف دائمًا في طريقه فيفشل في السفر أو الخروج من هذه الحياة اليومية المتكررة، ففي واقع الأمر فإن "ترومان" يعد أحد أشهر الأشخاص في الولايات المتحدة، لكنه لا يعلم ذلك!، فهو نجم أشهر وأقدم برامج تلفزيون الواقع التي تبث على مدار الساعة على شاشات التلفزيون؛ والمثير أن العرض قد بدأ منذ ولادة ترومان وصولاً إلى اللحظة الراهنة التي يرصدها الفيلم, فالأمور كانت تسير بسرية تامة، ودون علم أو موافقة منه، ليعيش 29 عامًا من حياته محاطًا بممثلين محترفين، بمن فيهم والداه وزوجته وأفضل أصدقائه.
هذه ببساطة القصة المختصرة لفيلم "عرض ترومان" أو (The Truman Show) وهو أحد أفلام الممثل الكوميدي الشهير جيم كاري، والذي يمكن إعتباره أول أفلامه الجادة البعيدة عن الكوميديا والفكاهة، الفيلم الذي تم إنتاجه عام 1988م يضم في بطولته: لورا ليني، نواه إمريش، ناتاشا ماكليهون، هولند تايلور، بول جياماتي، وقام بالاخراج المخرج بيتر وير، ويناقش الفيلم فكرة سيطرة وسائل الإعلام المختلفة على عقلية العديد من البشر، وإلى أي مدى قد يبلغ تعلق إنسان بشاشة التلفزيون وما حجم الجرائم التي يسمح بها بتعلقه هذا.
ففي حالة "ترومان" نجد قد عاش في استديو ضخم تم تصميمه خصيصًا لاحتضان حياته الوهمية، حيث يشاهده ملايين البشر حول العالم، في بث مباشر على مدار 24 ساعة يومياً، لقد كان ترومان حديث المجتمع، الكل يتابع حياته وتحركاته على الشاشة دون انقطاع، لقد أصبحت حياته مجال اقتحام الكل والكل يستأنس بحياة ترومان، إلا ترومان نفسه، الذي وجد نفسه في مجتمع يكرر أفعاله، كأنه يحفظها عن ظهر قلب، ويتصرف أمامه في كثير من الأحيان بطريقة ليست منطقية، وكلما حاول ترومان أن يسأل أو يحاول أن يعرف.. يُبقونه منشغلا بالبحث عن السلع الاستهلاكية والغرق في وهم المادية؛ ليبرز من ذلك كله إشارة إلى واقعنا المجتمعي الغارق في الاستهلاكية والمادية، وبالتالي فهو بعيد دائما عن الأسئلة الأعلى والأكثر قيمة؛ تلك التي تعطي لحياة الإنسان المعنى أصلا.
في عام 1968مقُدِّم فيلما قصيرا بعنوان "The Secret Cinema" لـبول بارتل، كان الفيلم يحمل فكرة مماثلة لفيلمنا هذا، لكنها مقتضبة جدا، إلى أن أتى العام 1994 حيث قدَّمَ المؤلف "أندرو نيكول" الذي كان يبدأ حياته السينمائية للمنتج "سكوت رودين" نصَّ فيلمٍ بعنوان The Truman Show، والذي كان لفكرته أصالةٌ مثيرة لكن نسبية، لكن رودين وجد أن ميزانية الفيلم التي قد تبلغ 60 مليون دولار كبيرةٌ على تجربةٍ سينمائية أولى لـنيكول، خاصةً وأن فكرة البطولة كانت تتجه نحو جيم كاري أو روبين ويليامز بدلا من غاري أولدمان الذي اقترحه نيكول.
يعتبر البعض أن قصة الفيلم سوداوية ومرعبة جدا، وقد خفف من حدتها الإطارالكوميدي الذي وضعت فيه، فالقضية التي يناقشها الفيلم ذات أبعاد فلسفية ونفسية طالما أنهكت الإنسان عبر العصور، هل الحياة التي نعيشها حقيقة صرفة؟، يبرز الفيلم فكرة القسوة البشرية المُتفق عليها إلى هذا الحد، والتي تسمح بمنح إنسان حياة مزيفة لمجرد التسلية فقط.
عقب عرض الفيلم في دور العرض، جرى الحديث عمن عانوا من مشاكل نفسية تشبه اضطرابات ترومان، فمنهم من تسلق تمثال الحرية منتظرًا مقابلة حبيبته التي ستفتح بابا من السماء المزيفة وستخرجه من ذاك العالم، وآخر مريض عانى مما سُمي متلازمة ترومان لسنوات، وقد نُشر عنه مقال بعنوان "نجمُ الوهم" في صحيفة نيويورك تايمز عام 2013.
تم إعادة كتابة الفيلم 16 مرة حتى وصل النص إلى شكله النهائي، دور "ترومان" الدرامي البحت، لم يكن لأحد أن يتوقع نجاحه بهذا الشكل لنجم الكوميديا "جيم كاري"، والذي على إثره قد اعتذر الناقدين الكبيرين "جين سيسكل" و"روجر إيبرت" لقولهما سابقًا أن "كاري" لن يملك أبدًا مسيرةً تستحق الذكر، فهذا الدور العبقري الذي أداه "كاري" بكفاءة بات يُدرّس الآن في كورسات أخلاقيات الإعلام، وأيقظ مرضًا نفسيًّا ارتبط باسمه ما زال يتردد أصحابه على الأطباء حتى اليوم، The Truman Show وقصة صنعه.
في نهاية الفيلم نجد قدرة ترومان على تحطيم الحقائق التي تم تلقينه إياها، متحملًا تبعات ذلك من ألم وصدمة، بحثًا عن حقيقة صرفة تضع حدًا للشك الذي عاشه طيلة الأعوام الماضية.