القاهرة 28 مايو 2019 الساعة 02:26 م
كتب: د.محمد السيد إسماعيل
فى البدء كان الصراع منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل من هذا الخيط تنطلق عبير العطار فى روايتها الأولى " بانسيه " لكنها تستبدل بصراع الأخوين صراع الأختين المكتوم والمعلن بين " بانسيه " و" عائشة " وهو صراع يعود إلى تميز الأولى حيث " استطاعت الحصول على الدكتوراه والزواج مبكرا, أما عائشة فلا تزال عانسا تنتقل مابين هنا وهناك دون أية أهداف " ( " بانسيه " عبير العطار ص16يسطرون ).
" بانسيه " ساعية للعلم والحب بينما عائشة لا يهمها إلا جمع المال ولو كان ذلك على حساب والدتها واتهام والدها بأنه سبب تعاستهم تقول " ماذا صنع أبى بموته ؟ تركنا نواجه قسوة الحياة وحدنا بلا رحمة " وذلك بعد أن فقد كل شىء واضطرت الأسرة أن تهاجر من الكويت إلى مصر بعد الغزو العراقى للكويت الذى كان مأساة صورتها بانسيه بقولها لأبيها " السواد أصبح صبغة السماء ياأبى وصبغة المستقبل الذى طوى خلف نزاعات لايد لنا فيها لم البشر هم دوما قرابين الحروب ؟
" وبانسيه اسم مميز غير شائع كناية عن تفرد صاحبته التى تشبه زهرة " البانسيه " فى جمالها الحزين وهى زهرة ذات بتلات ثلاثة لهذا سميت الزهرة الثلاثية أو زهرة الثالوث وهى تشبه وجه الإنسان وتعيش فى الغالب عامين وتتميز بقوة التحمل لمختلف ظروف الطبيعة القاسية و" بانسى " بالإنجليزية و" بانسيه " بالفرنسية تعنى التفكير الحكيم وقد أحسنت الكاتبة فى اختيار هذا الاسم لبطلة الرواية التى تحملت – كأنها زهرة بانسيه – ظروفا اجتماعية قاسية, وتضيف البطلة معنى آخر إلى هذه الزهرة وهى أنها " زهرة الحب ", وقد اختاره أبوها لأنه " لم يعش الحب سوى وهم فى قلبه " بعد أن " دفن نفسه بين الطلاب والكتب والمحاضرات ".
كل هذا على العكس من عائشة التى " غلب حقدها طيبة عائلة بانسيه ", نحن إذن أمام ثنائية الخير والشر, وتظل بانسيه النموذج الممثل لهذا الخير الذى تراه " أحد أسباب حيويتنا " حين يسرى فى أعماقنا ورغم الإحباطات التى تعرضت لها " بانسيه " فإن نظرتها للطبيعة تعكس رؤيتها المتفائلة وإيمانها بانتصار النور على الظلام, حين " ظلت تنظر للسماء تتأمل فكرة انشقاق الضوء من الظلمة من شرفتها المفتوحة قبالتها " كان من الممكن أن يكون ماسبق وصفا طبيعيا يخلو من الدلالة, لكن فعل " التأمل " يوحى بإيمان " بانسيه " الداخلى بقدرتها على عبور نفق حياتها المظلم, ويتمثل هذا النفق المظلم فى تبدل حياة الأسرة كلها بعد أن فقد الأب كل مايملك بعد الغزو العراقى للكويت, بما يعنى تداخل الخاص والعام حيث كان " الموت يحلق بجناحيه فى السماء, أما على الأرض فقد ركبوا – أسرة بانسيه – السيارة وهم لا يعلمون أين وجهتهم القادمة.
" إن الصراع العربى / العربى يوازى صراع عائشة وبانسيه وهكذا نكون أمام تدرج سردى يؤدى إلى تأكيد الرؤية, والحق أن هذا التناقض بين عائشة وبانسيه لايرجع إلى اختلاف رؤيتهما للحياة أو إلى التقابل بين نهم الأولى للمال ونهم الثانية للمعرفة بل إلى جمال " بانسيه " التى كانت عائشة محرومة منه والذى تفجر بسببه " براكين الغيرة " حين حرمت من الدلال, ولم تعد تعرف كيف تمحو ما بداخلها من مشاعر تنتابها على من أخذت مكانها وكيف تستر حقدها الموجوع حين فقدت اهتمام الجميع بها.
ورغم هذا الجمال الذى تمتعت به بانسيه ورغم تفوقها العلمى فإنها- بسبب رقتها وبفعل الآخرين – قد حاولت الانتحار وبعد إنقاذها تقدم صورة تشبيهية موسعة للحياة التى أفضت بها إلى ذلك القرار؛ حيث بدت الحياة فى نظرها " كفندق كبير مملوء بالغرف المغلقة على أحداثها والعشق هو التيه الظيم الذى يذهب بعقلها لوقت طويل لكنه لم يصادفها كما شكله لها خيالها " الحب هو الملاذ إذن لكنها لم تصادفه حتى هذا الموضوع من السرد, هذه النظرة إلى الحياة أشاعت فى الرواية ما يسمى بالزمن النفسى الذى يختلف عن الزمن الطبيعى, حين تقول الساردة الخارجية العليمة واصفة إحساس بانسيه بالزمن " إن الزمن يجرى حثيثا نحو الانتهاء لكنه عند بانسيه لاينتهى " واستدعاء الماضى الجميل بوصفه نوعا من مقاومة الحاضر القاتم .
إن الماضى يمثل يوتوبيا الذات أو فردوسها المفقود مما يصنع مفارقة مع تتابع لقطات الحاضر ومرورها السريع وأثرها السلبى على الذات, وتزداد حبكة الرواية تأزما حين تكتشف بانسيه خيانة زوجها وأنه لا يعبأ سوى بأمرين : المال والنساء والأكثر قسوة اكتشافها أنها غير قادرة على الإنجاب.
وعلى مدار الرواية يتضح أن السرد يقوم على ضميرى المتكلم والغائب وذلك من خلال موقع السارد الخارجى أو الداخلى, كما يؤدى الحوار دورا رئيسيا فى غضاءة النص ويكاد يكون مساويا للسرد .
ورغم إحباطات بانسيه الكثيرة فإن الرواية تنتهى بمفارقة لافتة وهى موت بانسيه أثناء ولادتها طفلة يسميها سامى الأب " بانسيه " كناية عن استمرار هذا الجمال الحزين الذى حاصره الجميع .