القاهرة 14 مايو 2019 الساعة 12:30 م
كتب : محمد جمال الروح
المنجز الفني الذي يتركه الفنان الحقيقي هو معاهدة للخلود يقف أمامها الزمن عاجزاً، ووثيقة محبة تكتب في أروقة القلوب بين الفنان وجمهوره إلى الأبد .
رحلت محسنة توفيق فصعدت زهرة أخرى للسماء تطوقها عصافير من نور، شيعتها صيحات الباحثين عن الحرية من تذوقوا في فنها طعم الصدق وقيمة الإبداع وعمق التجربة .
ستظل محسنة توفيق بيننا أيقونة للعطاء الإنساني والفني والوطني ونموذج صادق وأصيل للفنان الذي يحمل هموم وطنه على كتفيه دون كلل ، لا يتأخر عن نداء، ولا يفوته واجب، يد بيد مع بسطاء الوطن في أول الصفوف مهما كان الثمن "مصر يا امّة يا بهية يام طرحة و جلابية. الزمن شاب و أنتي شابة هو رايح و أنتي جايه" بهية في فيلم العصفور امتداد لصورة مصر الفتية العنيدة الرافضة للهزيمة، أنثى اختلط دمها بدماء الوطن فخرج للشوارع تهتف " هنحارب .. هنحارب " كانت بهية التي جرحت صمت الهزيمة المعادل الإنساني لبلد مكلومة طعنت في قلبها، مشهد فارق في سينما يوسف شاهين ولحظة دقيقة في تاريخ البهية الكبرى التي رفضت الهزيمة حتى جاء النصر .
قدمت محسنة توفيق طوال عمرها الفني الممتد لعقود طويلة أكثر من ثمانين عمل فني مختلف، أما مواقفها النضالية والسياسية كانت سبباً لحصارها وحرمانها من أدوار كثيرة واستبعادها لفترات طويلة من العمل حتى وصل الأمر لاعتقالها في العهد الناصري حين قال عبارتها الشهيرة " الثورات تصنعها الشعوب", ورغم حبها الشديد لعبد الناصر إلا أنها عارضت بعض سياساته.
كانت محسنة توفيق من أوائل المنضمين لحزب التجمع حين تم تأسيسه عام 1976، مع مجموعة من الفنانين مثل يوسف شاهين وعبد العزيز مخيون وسيد حجاب وجميل راتب, وعارضت "محسنة" سياسة السادات أيضا، وأعلنت رفضها لزيارته للقدس المحتلة واتفاقية كامب ديفيد، وزارت محسنة توفيق لبنان عام 1982، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية، ورفضت في عهد مبارك السفر برفقة 70 شخصية من الفنانين لزيارة بيروت عام 2006، خلال الاعتداء الإسرائيلي على لبنان، وعبرت عن دعمها للمقاومة قائلة :" لن آتي إلى بيروت لزيارة الرؤساء. سأنزل إلى الشارع . علاوة على زيارتها للمخيمات الفلسطينية.
وفي ثورة يناير كانت محسنة توفيق يديها بيد الشباب تغنى أغانيهم وتنادى بالحرية فلم تكن بهية على الشاشة فقط ولكن على أرض الواقع تقف في الصفوف الأمامية . تقول محسنة توفيق "أنا مؤمنة بأن الفنان الحقيقي لا بد أن يلتحم مع الشعب، وأن تكون له مواقف معبرة عن مبادئه، ولم أحسبها يوما بحسبة المكسب أو الخسارة، بل كان كل ما يهمني هو أن أكون حقيقية وغير مزيفة .
بدأت مسيرتها الفنية عام 1962 وكانت ماتزال طالبة بكلية الزراعة حيث وقفت على خشبة المسرح في مسرحية مأساة جميلة ثم مسرحية أجاممنون, وكانت بدايتها السينمائية عام 1971 في فيلم حادثة شرف، ومع يوسف شاهين الذي أطلق لموهبتها العنان فقامت بدور بهية في فيلم العصفور 1974، وبأداء مميز قامت بدور أم يحيى في إسكندرية ليه, ودور الأم أيضا في وداعا بونابرت, ورغم أن الدور واحد إلا أن الأداء مختلف يعرف مفاتيح الإجادة، ولولا الفرقة بينها وبين يوسف شاهين لكانت لعبت دور البطولة في فيلم اليوم السادس الذي قامت ببطولته المغنية الشهيرة داليدا، ولا أرى وجه تشابه بينها وبين محسنة توفيق كي يستبدلها يوسف شاهين بهذه البساطة .
بعد المرحلة الشاهينية دخلت محسنة توفيق تجارب أخرى مع مخرجين أخرين كان أهمها دور الزوجة المثقفة المحبة في قلب الليل إخراج عاطف الطيب الذي قدمت معه أيضا فيلم الزمار 1985، و دورها في فيلم البؤساء إخراج عاطف سالم، وفي فيلم ديل السمكة إخراج سمير سيف كانت السيدة القعيدة الوحيدة التي تبحث عن نسمة هواء في أداء إنساني بليغ لعبته من فوق كرسي مدولب.
قدمت محسنة توفيق للدراما التلفزيونية أعمال خالدة مثل مسلسل الوسية، على باب زويلة، المرسى والبحار، الشوارع الخلفية, وأم كلثوم، ودور الملكة تي في مسلسل محمد رسول الله، أما الدور الذي لا ينسى فهو دور أنيسة في المسلسل الملحمي ليالي الحلمية هذا الدور الذي لن ينساه كل من شاهد وتابع هذا المسلسل الناجح .
قدمت محسنة توفيق العديد من المسلسلات الإذاعية مثل أمال ولا تلوموا الخريف والمعجزة الكبرى، أما المسرح فكان العطاء أكثر قوة مساحة الإبداع أرحب فمحسنة توفيق بالأساس ممثلة مسرحية مخضرمة لفتت لها الأنظار منذ بدايتها على خشبة المسرح، فقدمت مسرحية منين أجيب ناس لنجيب سرور، ومسرحية قمبيز لأحمد شوقي, ومع العظيمة سناء جميل قدمت مسرحية طيور الحب وغيرها..
محسنة توفيق الحاصلة على جائزة الدولة التقديرية تم تكريمها خلال الدورة الأخيرة لمهرجان أسوان لسينما المرأة التي أقيمت منذ عدة شهور، وقالت محسنة بعد تكريمها في المهرجان: "تكريمي هو اعتراف بفضل الناس عليا لأن لولا محبتهم واستقبالهم لأعمالي في بدايتي ما كنت هنا ولأنهم في القلب ناس مصر الحقيقيين هما اللي علموني كل حاجة في حياتي ، عندما كان يحدث شيء يغضبني كنت أنزل الشارع لرؤية الناس فكان الأمر يصبح بسيط وكنت أتفاءل والحقيقة أنني كنت أفعل ما يحلو لي ويجعلني سعيدة ومتفائلة".
رحم الله الفنانة المبدعة التى عشقت تراب هذا الوطن، صاحبة الأداء الفريد والثقافة الفنية الواسعة والضمير الإنساني اليقظ .