القاهرة 07 مايو 2019 الساعة 10:40 ص
كتب: أحمد مصطفى الغـر
لشهر رمضان طقوسه الخاصة التي اعتدناها منذ زمن طويل، وقد توارثتها الأجيال عن الآباء والأجداد، وهي غالبا ما تعكس التراث والأصالة، عادات وتقاليد تعيش طويلاً لكن بعضها بدأ في الاختفاء والتلاشي تحت وقع الحداثة والعصرنة والتطور الذي تشهده المجتمعات, ومن المظاهر الرمضانية التي اعتدناه لسنوات طويلة.. المسحراتي؛ الذي يعدّ علامة من علامات الشهر المبارك، ودوره مهم جدا في تنبيه الناس لتناول وجبة السحور قبل أذان الفجر من خلال الضرب على الطبلة وهو ينادي على الناس"قوم يا صايم، وحّد الدايم"..
هذه الشخصية الرمضانية بامتياز قد لا يعرفها عدد كبير من أبناء الجيل الحالي، ولا يقدّرون قيمتها، حتى باتت مهددة بالنسيان إن لم ننتبه لها ونجعلها حاضرة في وجدان أبنائنا، صامدة في وجه التغيرات، وطالما تفاخر المصريون بهذه العادات المتوارثة والطقوس المجتمعية الجميلة خلال قرون ماضية، والمسحراتي تقليد مستمر عبر التاريخ من أجل إيقاظ المواطنين لتناول السحور، حيث كانوا يستيقظون كل يوم على مدفع السحور وكلمات المسحراتي الذي كان لحضوره إيقاع خاص فيقرع طبلته ويصدح بصوته الجهوري (يانايم وحد الدايم)، و(قوموا على سحوركم جاي رمضان يزوركم)، و(يا عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة)، (الشهر صايم والفجر قايم)، متجولاً في الحارات القديمة والأحياء طالبا الأجر والثواب.
هذا الشهر ليس ضيفا عاديا كي يستقبله المصريون دون استعداد، لكن المشكلة أن الحداثة التي نعيشها قد غيبت عاداتٍ وطقوسا رمضانية كان المصريون يمارسونها لاستقبال الشهر الفضيل، فشخصية المسحراتي واحدة من سمات شهر رمضان الفضيل، على مدى مئات السنين ظل متمسكاً بمكانته المتميزة وبزيه الذي يحمل عبق التراث المصري، صحيح أن الأحوال تبدلت واختفى المسحراتي في كثير من الأحياء إلا أن بعض المناطق الشعبية والريفية مازالت تحتفظ بمسحراتي يورث المهنة لأبنائه.
ترجع المصادر التاريخية مهنة المسحراتي إلى العهد الإسلامي، وهى تقوم على إيقاظ الناس في ليل شهر رمضان لتناول وجبة السحور، حيث بلال بن رباح رضي الله عنه أول من تولى هذا الأمر في التاريخ الإسلامي، حيث كان يجوب الشوارع والطرقات لإيقاظ الناس للسحور بصوته العذب طوال الليل، وفي العصر العباسي كان المسحراتي ينشد شعرًا شعبيًّا يسمى "القوما" طوال ليالي رمضان، وربما كان ذلك عائدًا لازدهار فن الشعر في ذلك العصر، وكان والي مصر "إسحق بن عقبة" أول من طاف على ديار مصر لإيقاظ أهلها للسحور، حيث كان يذهب سائرًا على قدميه من مدينة العسكر في الفسطاط إلى جامع عمرو بن العاص وينادي الناس بالسحور.
وفي عهد الدولة الفاطمية كانت الجنود تتولى الأمر، وبعدها عينوا رجلا أصبح يعرف بالمسحراتي، والمسحر شخص يمتهن هذه المهنة في شهر رمضان المبارك يحمل بين يديه طبلة يدق عليها بهدف إيقاظ الناس قبل صلاة الفجر، وعادة يكون النداء مصحوباً ببعض التهليلات أو الأناشيد الدينية، وسبب ارتباط الأطفال بالمسحراتي هو ذكره لأسمائهم عند وقت السحور، فيتسابق الأطفال لرؤيته من النوافذ والشبابيك. لكل منطقة مسحراتي خاص بها، أما عن أجر المسحراتي فلا يوجد أجر ثابت حيث يعتمد على الصدقات التي قد يخرجها المسلمون في رمضان.
حديثا؛ نجد "سيد مكاوي" الذي أبدع في تقديم المسحراتي بكلمات الشاعر "فؤاد حداد" الذي صاغها شعرًا، وظل يقدم المسحراتي بالأسلوب نفسه حتى وفاته، ومن أشهر مقدماته "اصحى يا نايم وحد الدايم وقول نويت بكره إن حييت الشهر صايم والفجر قايم..اصحَى يا نايم وحد الرزاق رمضان كريم"، وكذلك الموسيقار الراحل "عمار الشريعي" في برنامجه الأشهر "المسحراتي"، الذي كان يُقدمه في التليفزيون المصري، وكانت من أبرز المقطوعات التي ارتبطت بمهنة المسحراتي "مسحراتي مصر البهية، اصحى وصبّح رب البرية، مشيت أرتّل وأنشد وأجوّد، وصوتي يجري بين النواصي.. اصحى يا نايم".
وشخصية المسحراتي قد أسرت المستشرق الإنجليزي "إدوارد لين" الذي زار مصر مرتين خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي، وشغف شغفًا كبيرًا بعادات المصريين وتقاليدهم ودوّن ملاحظاته في كتابه باسم "المصريون المحدثون.. شمائلهم وعاداتهم"، ويقول فيه عن المسحراتي: "يبدأ المسحراتي جولاته عادة بعد منتصف الليل مُمسكًا بشماله بطبلة صغيرة وبيمينه بعصا صغيرة أو قطعة جلد غليظ، وبصحبته غلام صغير يحمل مصباحًا أو قنديلًا يضيء له الطريق، ويأخذ المسحراتي في الضرب على الطبلة ثلاثًا ثم ينشد أناشيد ينادي فيها صاحب البيت وأفراد أسرته فردًا فردًا ما عدا النساء، ويردد أيضًا أثناء تجواله على إيقاع الطبلة كثيرًا من القصص والمعجزات والبطولات الإسلامية عبر التاريخ" .
المسحراتي من الشخصيات التي لا يمكن نسيانها أو محوها من الذاكرة على الرغم من انحسارها بفعل طغيان التكنولوجيا،فهذه الشخصية الرمضانية بطبلته المجلجلة وصوته العذب وبعباراته التي يرددها وتشق صمت الليل، يجول في شوارع الحي لإيقاظ أهله من أجل السحور، صورته الجميلة راسخة في الوجدان، لكن الآن أصبح الاستيقاظ على أصوات المنبهات الآلية أو نغمات الهواتف المحمولة، ما جعل حضور المسحراتي مهددا، وبات على عاتق الأسرة والمؤسسات التعليمية مسؤولية إحياء هذا الجانب التراثي المهم.