القاهرة 30 ابريل 2019 الساعة 01:08 م
كتب: عاطف محمد عبد المجيد
إن الارتداد وهدم المنطق الصوري والبراءة الطفولية، وغيرها من جماليات المسرح الحديث والمعاصر، لم تكن وليدة النصف الثاني من القرن العشرين، بل إنها بدأت منذ بداية الثورة على الواقعية، فعدم الالتزام بالقانون الواقعي أو بالحل الواقعي بقوانينه الزمانية والمكانية، سيحيلنا إلى النقيض، وهو الحل الخيالي .. هذا ما يقوله الراحل د. سيد خطاب في كتابه " الباتافيزيقا .. فلسفة الحلول الخيالية "، والصادر حديثًا عن الهيئة العامة للكتاب.
في مقدمته يورد خطاب ما قاله توماس مونرو من أن المسرح قد أعدته سلسلة من الأحداث النكوصية في الرسم الأوروبي منذ حركة الانطباعيين وخاصة استخدام الألوان الصارخة الزاهية التي كانت قد حُرمت على اعتبار أنها أشياء فجة وبدائية. خطاب يرى كذلك أنه في الآونة الأخيرة قد اتخذ التجريب في المسرح أشكالًا مغايرة تغايرًا مدهشًا، متعافية في مسارها الظاهري، عائدة إلى الماضي في مسارها الحقيقي، وهي بذلك لا تحقق مبدأً جماليًّا جديًا بقدر ما تحقق شكلًا جديدًا.
هنا يتحدث خطاب عن انطلاق خيال المبدع الحر الذي يعبر بالأشكال البدائية وصور الفن الخالص عن رؤيته للعالم، فيقدم مسرحًا مدهشًا مبهجًا يثير من الأسئلة أكثر مما يعطي من إجابات عن الوجود والحقيقة والكون. أيضًا يطرح خطاب هنا عددًا من الأسئلة منها ما هي الباتافيزيقا؟ وهل استطاع النقاد أن يصلوا إلى فهم متفق عليه حول مسرح ألفريد جاري الباتافيزيقي؟ وهل سنستطيع أن نتقبل مصطلح الباتافيزيقا كمعبر عن اتجاه مسرحي بعينه؟
أزمة اغتراب
خطاب يؤكد كذلك أن هناك العديد من المصطلحات التي وقعت في أزمة اغترابها من معناها الأصلي، أو حتى عانت من شيوع الاستخدام ومن سيولة الفن، ومن هذه الحالات ما وصل إليه مصطلح العبث من شيوع، حتى فقدت الكلمة معناها الأصلي، ولعل الباتافيزيقا من المصطلحات التي تضعنا في أزمة الفهم والتحديد.
مرة أخرى يعود خطاب لطرح أسئلته التي يحاول هنا أن يجد لها إجابات، قائلًا هل تعد الباتافيزيقا فلسفة متكاملة؟ وما هي الأسس الجمالية للباتافيزيقا؟ وما هي المصادر الفنية التي تحقق هذا المفهوم؟
هنا يكتب خطاب عن مفهوم الباتافيزيقا، عن التأسيس الجمالي للباتافيزيقا والتأسيس الفلسفي لها، وعن مصادرها الفنية, كما يكتب عن الملامح التكنيكية لمسرح ألفريد جاري, كذلك يتعرض خطاب إلى الصورة المسرحية وشعر الفضاء المسرحي الذي كان أحد الملامح التكنيكية التي اعتمد عليها ألفريد جاري في محاولة لعكس رؤيته الشعرية مجسدة على خشبة المسرح، راصدًا العديد من الصور الشعرية الجزئية والكلية الممتدة.
كما يذكر خطاب أن الباتافيزيقا تعبر عن مفهوم جاري الخاص لسبر أغوار التجربة الإنسانية والتعبير عنها، بكل تناقضاتها، فهي توصف أحيانًا بأنها فلسفة اللافلسفة, كما يورد ما قاله أنتونان أرتو من أنه عندما أطلق نيتشه مقولته الخاصة بموت الإله على لسان زرادشت، وبالتالي شيوع الفوضى وانتفاء النظام كان يعبر من خلالها عن نظرته الخاصة لواقعه الذي تكسرت فيه كافة المسلمات التي لم يكن يتطرق إليها الشك، علمية كانت أو روحية، فنادى معجبًا بقوة الإرادة القادرة على تحمل الألم والعذاب بهدف الوصول إلى الطاقة الضخمة للعظمة التي يسعها أن تشكل إنسان المستقبل بواسطة النظام؛ وهكذا رأى نيتشه خلاص البشرية في إنسان المستقبل " السوبرمان " الذي يتكون عبر سلسلة من الفشل والتعذيب لغير المكتملين المرقعين، على حد تعبيره، ليتم لبني البشر تحقيق الخلود.
أيضًا يقول خطاب هنا إن الخيال باعتباره أداة معرفية للفنان من شأنه أن يصطنع عاملًا مفارقًا للعالم الطبيعي، والعالم ما وراء الطبيعة، هذا العالم المغاير تمامًا تتجاور فيه المتناقضات التي هي جوهر الحقيقة.
التجربة الإنسانية
خطاب متحدثًا عن التأسيس الجمالي للباتافيزيقا يقول إنه في فرنسا وفي منتصف القرن التاسع عشر كانت الطبيعية وباعتمادها على تطبيق المنهج العلمي على التجربة الإنسانية، ورؤيتها للحقيقة على أنها تستطيع أن تبرهن عليه الحواس الخمس، تحيل مفردات البشرية الإنسانية إلى مجموعة من المعادلات الرياضية الجامدة، الأمر الذي يتنافى مع طبيعة التجربة الإنسانية القائمة على الفردية التي تخرج عن طائلة أي قانون عام يوحدها.
وحسب ما يقوله خطاب نعرف أن جاري كان سباقًا في العودة إلى إحساس الإنسان البدائي بالدهشة من الوجود المحيط به، والوقوف أمام الموت باعتباره النقطة التي عجز العقل البشري عن الوصول إلى تصور لها فقدم عن طريق شعائره الدينية وأساطيره مجموعة من الحلول الخيالية لتلك الأسئلة التي لا يجد لها إجابة في الواقع وباستخدام العقل.
كذلك نعرف هنا أن الباتافيزيقا معتمدة على الخيال كأداة معرفية تمنح الفنان فرصة الانطلاق إلى ذلك العالم الرحب الذي يلتقي فيه الماضي بالمستقبل، وهنا بهناك, هنا أيضًا يتحدث عن المصادر الفنية للباتافيزيقا ذاكرًا منها اللعب الإيهامي عند الأطفال، الأسطورة، وفنون العصر الوسيط والمسرح الإليزابيثي، ذاكرًا أن أهم ما يميز هذا المسرح هو قدرته على الاتصال بالجماهير وإشاعة جو من الاحتفالية دون الإخلال بتقديم عمل مسرحي لا يزال حتى يومنا هذا قادرًا على تحقيق جوهر العملية الدرامية، بل لا يزال يطرح العديد من الأسئلة الجوهرية عن الكون والإنسان.
ومتحدثًا عن الصورة المسرحية يقول الكاتب عنها إنها إذا كانت نتاج العناصر المرئية والمسموعة في العرض المسرحي، فإن كثيرًا من المؤلفين، وليس المخرجين، اعتمدوا اعتمادًا كبيرًا على الصورة المسرحية باعتبارها حاملة لرسالتهم الموجهة إلى المتلقي، ومظهر الحياة الداخلية لأفكارهم من ناحية والمعبرة عن حلم ما قبل الوصول إلى نص مكتوب من ناحية أخرى.
وبعد حديثه عن مسرحيات ألفريد جاري يصل إلى القول بأنه يعد من أوائل المرهصين باستخدام الصور المرئية في التعبير عن المعاني والأفكار التي كانت تقدم عبر الكلمة في المسرح الواقعي، وإن لم يكن استخدامه للصورة المرئية والفراغ أو الفضاء المسرحي بالشكل الذي وصلت إليه بعد ذلك في المسرح السيريالي ومسرح العبث والمسرح المعاصر الذي وصل به الأمر إلى استخدام الصورة المرئية كبديل للكلمة التي لم تعد موجودة في كثير من عروض المسرح المعاصر.