القاهرة 23 ابريل 2019 الساعة 12:49 م
كتب: د. حسين عبد البصير- مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية
لم يكن الانتحار معروفًا على نطاق واسع في مصر القديمة, واعتقد البعض أن إنسانًا مصريًّا قد انتحر, والحقيقة أن هذا عمل أدبي يُطلق عليه "اليائس من الحياة", وهو من النصوص الأدبية الجميلة والمهمة التي جاءت لنا من مصر القديمة, وهو عبارة عن حوار أدبي ذي مغزى فكري وديني وسياسي بين اليائس من الحياة وروحه, ولهذا الحوار صفة النزاع الكلامي والجدل الفكري بين الذات المتمثلة في الفرد الذي يأس من حياته نظرًا لانتشار الظلم والفساد في العالم وبين الروح التي تسعى لإقناع الذات للإقدام على الانتحار كي تتخلص من مساوئ هذا العالم المليء بالأزمات والفوضى.
وكان الواقع الاجتماعي الذي كان يعيش فيه ذلك الرجل ظالمًا حيث ساءت أحوال البلاد والعباد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية, وانتشر الشر والفساد في كل مكان ولم تعد لقيم الخير مكان عند الناس فقد قل الأمن والأمان والوفاء لدرجة أنه لم يعد للإنسان من صديق أو أخ أو جار يتحدث إليه؛ فالإخوة والأصدقاء أصبحوا أعداء لبعضهم, وغدت الثروة والنفوذ بيد الفاسدين الأشرار؛ لذلك فقد أراد ذلك الرجل أن يتخلص من حياته بحرق نفسه، لكن روحه عارضته وهددته بأنها ستهجره في العالم الآخر, ولكنه أيضًا ومن خلال حواره مع روحه كان حريصًا على إرضائها وبقائها معه فأخذ يحاورها، وتحاوره وأخذت تخيره ما بين الرضا بالواقع والحياة معًا، أو الرضا بالموت والإقدام عليه, وكفت عن الحديث وامتنعت عن مناقشته, ولكن ما لبثت حتى عاود التفكير فيما دعته إليه واعتزم أن ينتقل وإياها إلى عالم الآخرة, وبدأ يستدرجها في الحديث أملاً في أن تشجعه وتساعده في اتخاذ قرار محدد, وأشهد عليها جمعًا تخيله من الناس, وتصنعت الروح الغضب مرة أخرى, وأجابته وهي تؤنبه: "الست رجلاً يافعًا عشت الحياة من قبل، فماذا حققت؟". ثم قصت له قصة رجل فقد زوجته وأولاد نتيجة إعصار ألقى بهم في بحيرة تعج بالتماسيح في سواد الليل, وهدفت الروح، من رواية هذه القصة وأخرى تلتها، أن تقنع صاحبها بأنه إذا تأمل الآخرين هانت عليه بلواه, لكنه دخل معها في جدل آخر عن قيمة الحياة التي تدعوه إلى الرضا بها بعد أن فقد فيها الكرامة والثقة والأمل في الناس ونظم إجابته من خلال أربع قصائد نثرية.
وتحدث عن الموت الذي فيه خلاصه من مأساته, وأكد على إيمانه بالحياة بعد الموت وإيمانه بالثواب والعقاب وعدل الأرباب فيها, وقال لها: "وها هو الحق.. الحق من وصل للعالم الآخر سيكون معبودًا يحيا به فيرد الشر على من أتاه, وها هو الحق من وصل هناك سيكون عالمًا بالأسرار وكل بواطن الأمور".
وهكذا انتهت البردية البليغة؛ فكانت أبلغ من هذا, وكان هذا اليائس يعيش في صراعه مع روحه, ومن تلك البرية يتضح أن الأسلوب السردي أو السياق والنظام العام الذي استطاع من خلاله القاص المصري القديم رسم ووضع العناصر الرئيسية للقصة، خاصة الزمان والمكان وحركة الأشخاص، مما ساعد على الحبكة الدرامية مما تحمله من تنوع في الأحداث والمواقف داخل الإطار القصصي، وحافظ على حيوية وتدفق وتتابع الحكاية.
أما عن الانتحار بالفعل، فهناك نص بردية تورين القضائية الشهيرة التي تتحدث عن مؤامرة نساء البلاط الملكي على حياة الملك رمسيس الثالث، وانكشاف المؤامرة، والتحقيق فيها بأمر من الفرعون, وقد حكمت المحكمة على المتهمين بأحكام تتراوح بين الإعدام والانتحار والجلد والسجن وقطع الأنف وصلم الأذن والبراءة، كل وفقًا لدوره وجريمته فى تلك المؤامرة المشينة.
تلك هي مصر الفرعونية المبهرة بثرائها الأدبي والفكري والقانوني الذي علّم الحضارات وألهم الإنسانية.