القاهرة 23 ابريل 2019 الساعة 12:16 م
كتبت : جيلان صلاح الدين
"النهار ده مش بتاعي،"
حسن الأسمر من لقاء ببرنامج "فارس حول العالم"
أول مرة استمعت فيها لحسن الأسمر كنت أركب الميكروباص (أو كما نطلق عليه في مدينتي الإسكندرية المشروع) بينما أنا في طريق عودتي من العمل للمنزل.
يبعد عملي عن منزلي بعدة محطات وشوارع، وحتى منطقة سكنية مختلفة تمام الاختلاف عن محل سكني. أسكن في منطقة راقية، بينما كنت أعمل في حارة بأحد الأحياء الشعبية كثيرة الضوضاء والتكاتك. لم أكن أحب عملي كثيراً، خاصةً للظروف التي اضطرتني قطع المشوار الطويل كل يوم للذهاب إليه، واضطراري -لاضطراب حالتي المادية وعدم امتلاكي سيارة- أن أقطع الطريق الطويل من العمل للمنزل باستخدام مواصلتين، ميكروباص على خط شارع أبو قير ثم تاكسي حتى باب منزلي. عادةً كنت أدفع خمس جنيهات للسائق لأجلس في الكنبة الأمامية فلا يشاركني فيها أحد، وكان هذا التصميم يضطرني للانتظار أحياناً فوق النصف ساعة حتى أجد مبتغاي؛ الميكروباص الحلم الذي لم يشغل أحد مقعديه الأماميين بعد. في بداية عملي، وعند اضطراري لركوب الميكروباص أنا التي لم أكن من راكبي المواصلات العامة في حياتي، كنت أتخذ موقفا عدائيا من ثقافة عفاريت الأسفلت والسائقين بصفة عامة. كنت أضع سماعات الآيفون في أذني وأترك بلاي ليست أنغامي –والذي تحول فيما بعد لسبوتيفاي- تنطلق بما تجوده علي من أغاني متنوعة من آلان والكر لمايلز دايفز، مروراً ببينك فلويد وليد زيبيلين وأحياناً مادونا.
في أحد الأيام المرهقة، اضطررت للسهر في عملي فترة طويلة، وخرجت لأبحث عن ميكروباص في وقت متأخر من الليل. اتخذت مقعدي إلى جانب السائق، فقط لأكتشف أن بطارية الآيفون تحتاج للشحن وأمامي ساعة تقريباً أقضيها في الطريق مع بلاي ليست سائق الميكروباص وذوقه الذي عادةً لن يحيد عن المهرجانات أو أم كلثوم؛ وهما لونان من الموسيقى أقدرهما لكنني أحتاج لبال رائق لأتلقاهما.
وذائقة أغاني سائقي الميكروباص عادةً ما تنحصر في فلك اللون الشعبي؛ إما الشعبي القح مثل عبد الباسط حمودة ورمضان البرنس وكتكوت الأمير والليثي وغيرهم، أو مطربي الشجون والأحزان المفتعلة مثل هاني شاكر ومصطفى كامل، وكثير من جورج وسوف.
لم أكن أفهم سر انتشار الأغنية الشعبية أو التفاعل الشديد معها، حتى استمعت لأغنية "سألوني مين" لحسن الأسمر بينما أعاني من موقف وقع علي فيه ظلماً شديداً لم أستطع رده، وبدت عندها كل الكلمات المفتعلة المبالغ فيها حقيقية "تدوس على الجرح"؛
أنا اللي كلي جروح
وم الزمن مجروح
أنا الزمان هدني
ولا حد بيودني
ولما أقول آه
في ناس تقول الله
عن جانبي، وفي قلب برودة الإسكندرية أثناء ساعات الليل المتأخرة، أخذ سائق الميكروباص يتمايل ويرقص متأوها كلما توجع حسن الأسمر ب "آه" وأتبعها ب "الله" ثم كان كوبليه "أنا مين، أنا مين" هي الشرارة ليتمايل الميكروباص مع حركة قيادة السائق وسط احتجاج من الراكبين.
وصلت وجهتي وكلمات الأغنية ترن في أذنيَ. وفي منزلي، بحثت عن صاحب الأغنية –فلم أكن أدرك وقتها أنه الواد الجن- حتى وجدت حسن الأسمر بملامحه المعتادة؛ السمار الشديد، الوحمة أعلى العين اليمنى، والعينين بالذات أثارتا اهتمامي، نظراته موحشة، يبدو غريباً وسط عالم البشر، ربما لإدراكه عمق المعاناة قبلهم، ربما لأنه الوحيد فيهم الذي استطاع التعبير عما يؤلمه بصورة فطرية مبالغ فيها دون خوف من الاتهام بالتطرف الشعوري أو المحونة.
يحدث كثيراً أن يتعاطف سائقي الميكروباص لحالي بينما أجلس إلى جانبهم ممسكة بزمزمية أديداس مازالت تلازمني من أيام الرفاهية، أو عند ارتطام حذائي عالي الرقبة بالبورد الأمامي للسيارة. وفي مرة، بعد أن ركبت السيارة لأجد السائق يشغل أغنية لا أعرفها لحسن الأسمر.
"عايزة حاجة معينة يا أبلة؟"
يسألني بود فلا أصحح له بمناداتي بلقب أكثر ملائمة لي، أخبره بأنني يستهويني ذوقه فتجلجل ضحكته، يرفع من صوت المسجل فتتعالى؛
مقفول عليا لوحدي باب
من غير قرايب ولا أحباب
لم يكن حسن الأسمر ونحن أطفال التسعينات مجرد مطرب شعبي، كان تريند قبل أحمد شيبة والليثي، كان يغني للمجروحين والموجوعين، وإن كان المثقفين يستطعمون لونه الفني والدليل استخدامه لضرورة درامية في أكثر من عمل أشهرها مسلسل "أرابيسك" من تأليف أسامة أنور عكاشة.
الاستعانة بمطرب شعبي في الأعمال السينمائية كان لضرورة تجارية بحتة في معظم الأحيان، لكن الكثير من المخرجين كانوا يرون في فارس الأغنية الشعبية ما هو أكثر من عنصر من عناصر التوليفة التجارية السينمائية المعتادة, تجدها الآن مع محمود الليثي أو سعد الصغير فتتذكر الأغنية أكثر مما تتذكر الفيلم، أو تنسى ما كان يفعله المطرب في الفيلم، بينما مع حسن الأسمر يبقى المشهد الأيقوني من فيلم "بوابة إبليس" وهو يرتدي البدلة الجينز والباندانا الحمراء ويتأمل بعينيه الحساستين أبطال الفيلم من حوله -مديحة كامل ومحمود حميدة وعايدة عبد العزيز- وفي لحظة تقوم مديحة كامل لترقص عن جانبه تعبيراً بجسدها عن الألم النابضة به كلمات الأغنية, لا يعمل صوت حسن الأسمر كخلفية للجسد الراقص أو يبدو مقحماً على الأحداث، لكنه يحرك الأحداث قدماً بصوته المكلوم وهيئته المقتحمة، لا يمكن أن تغفل العين حسن الأسمر.
مين في مصر ما بيحبش حسن الأسمر؟
نصر محروس من لقاء ببرنامج "صاحبة السعادة"
عندما كنت بعد صغيرة، لم أتخيل أن أستمتع بالغناء الشعبي، في بداية حياتي تأثرت بذائقتيّ أبي وأمي، جاز وكلاسيك وبوب وديسكو ومحمد منير، وعند تعرفي إلى زميلات الدراسة المتمردات كان الهارد روك والبانك والهيفي ميتال هم طريقي للموسيقى المغايرة. لكن في هذه الشهور التي كنت أقطع فيها الطريق ذهاباً وإياباً من عملي وإلى منزلي، لم تفارقني الأغاني الشعبية والمواويل والمهرجانات. اختلف سائقو الميكروباصات بأشكالهم ومراحلهم العمرية وأساليبهم في التعامل مع الزبائن، إلا أنهم جميعاً اجتمعوا على حب الغناء الذي يتلائم وشعورهم الدائم بالاضطهاد والإهمال والألم والمعاناة, كان المطرب يتأوه فيزداد تفاعل السائق مع الزحام أو الركاب المزعجين أو عكوسات الطرق أو الألم من الجلوس خلف عجلة القيادة لفترة طويلة.
ما تشغل قرآن ياسطى بدل اللي أنت فاتحه ده!
.
تعليقات المستمعين على الفيسبوك ويوتيوب تترك أثراً وكأنما حسن الأسمر توفى بالأمس فقط وليس منذ سبع سنوات عن عمر تجاوز الخمسين بعام واحد, تشعر في حديثهم عنه بحميمية تستغربها, لا تجدها وياللعجب في مطربي اليوم؛ شعبيين كانوا أو بوب, مهما بلغت درجة الحب لمطرب ما، نادراً ما تجد الناس يتحدثون عنه أنه "بتاعهم" أو "عمهم", والغريب أن تجد هذا في حسن الأسمر الذي فارق العالم منذ سنوات عدة وانفصل تماماً عن الطبقة الكادحة الدُنيا والتي شكلت جماهيره الغفيرة فيما مضى، لكن أثره باقٍ في شرائطه أو أغانيه التي يشغلونها من فلاشة بينما يقودون التكاتك أو الميكروباصات، أو يجلسون في واجهات محالهم، أو الوِرش التي يصلحون فيها أجهزة وأدوات الآخرين.
فاض بيا منك يا زمن
ولا مرة اشتكيت
في اللقاءات الفنية القليلة التي شاهدتها لحسن الأسمر، بدا فيها ملولاً، مضطرباً، قليل الكلام, حاصره المذيعون بأسئلة عميقة عن أصل الفن الشعبي وموجاته، بدا عليه الضجر وهو يبحث عن إجابة يفسر بها فنه فلا يجد.
في جميع اللقاءات، ظهر الأسمر كمثال حي على الفنان الفطري الذي لا يُسأل عن إبداعه ربما لأنه لا يجد إجابة شافية أو تبرير لما يفعل. هو يغني لأنه ولد ليفعل هذا, أعجبني هذا فيه؛ كما أعجبتني مسحة الشجن التي كانت تطغى على كورس الفتيات الضاحكات في عز شجن الأغنية التي يغنيها والتي كانت نشاز وإن امتازت بها معظم الأغنيات الشعبية في تلك الحقبة.
بحثت كثيراً لأجد أغنيات لايف للأسمر على المسرح حتى وجدت "كتاب حياتي"، وبينما الأسمر يغني في حفلة خاصة، وعن جانبيه فتيات يرقصن بفساتين وتنورات قصيرة، توحد الفنان مع كلمات أغنيته المثيرة للشجون واختفت من على ملامحه شهوة الانبساط التي كانت تلازمه في بداية اعتلائه المسرح إلى جانب الفتيات الجميلات.
لفت أحد الأصدقاء انتباهي إلى أهمية الأغنية الشعبية كوسيلة للاستقواء العاطفي والانساني دون محاولة للتمحُّك في العاطفة التي تشمل أي أغنية تربط رجل وامرأة ببعضهما البعض.
في أغاني الأسمر، يستخدم التحدي كوسيلة للف الكرّة والعودة لمساحة الشجن التي يجد فيها أمانه. ويشبه في هذا معظم أبناء طبقته, في إحدى رحلاتي في ميكروباص كان يشغل أغنية "متشكرين" وبينما كوبليه:
أنا وأنتم يلي خنتم... والزمان بيني وبينكم
أنا وأنتم يلي خنتم... إن ما شفتوا الويل بعينكم
يبدأ، صاح السائق الذي كان مكفهر الوجه طوال الرحلة صيحة انتصار وبدأ وجهه في اللين. ما هو السر في هذا الصوت وهذه الكلمات التي يمكن أن تُقال من أي لسان أو حنجرة لتختلف الطريقة التي يتلقى بها المستمع كلمات أغنية من هنا عن هناك؟
أنت اللي بديت
وعليا جنيت
مرحمتش يوم دموعي
لا تجد لحسن الأسمر ذات الهايب المصاحب لمطربي الأغنية الشعبية الآخرين؛ على الرغم من إسهاماته الكبيرة في تاريخ الأغنية الشعبية، ومواويله الصادقة التي تخرج من عمق معاناته لتصل إلى قلوب مستمعيه. ربما لأنه كان قليل الحديث عن فنه؛ كلما سُئل عن أغنية أجاب بأريحية أن لا قصة وراءها، لكنه يغني الكلام من قلبه لذا تجده يصل للقلب.
في أحد اللقاءات تحدث عن تأثره بكوميديا نجيب الريحاني بالذات دوناً عن كوميديانات الزمن الجميل، وليس هذا بغريب على الأسمر الذي يمزج الضحك بالبكاء والسخرية المريرة من حالته حتى أثناء الحب.
مكتوب فأول صفحاته،
واحد غريب وآدي حياته
حيعيش حزين ويسيبها حزين،
إمضاء زمن وتحياته
مؤخراً، شاهدت فنانة مصرية رقيقة تُدعى سهر الصايغ تعيد غناء "سألوني مين" بكوفر هادئ لا يتناسب ومدى المعاناة في الأغنية, لكنني استمتعت بأن تكون فتاة جميلة الطلة، ترتدي ملابس أنيقة تغني بنفس حال لسان مطرب شعبي أتى من قاع المدينة؛ جعلتني التجربة أتمنى لو تم إعادة غناء روائع حسن الأسمر من قبل مطربي البوب والرومانس الخفيف، ترى كيف سيتم التلقي لأغانيه وتقبلها من قبل الجماهير العربية الآن؟ ولماذا لا نجد مجهودات مثل تلك التي يفعلها المطرب الصاعد محمد الشرنوبي في تغيير شكل الأغنية فيصبح مهرجان "مش هروح" موال طربي أصيل، هل يمكن أن نجد أغاني حسن الأسمر وهي جزء من التراث والميراث المصري الأصيل على مسرح دار الأوبرا المصرية بتوزيع يتناسب وجمهور الأوبرا الرصين؟
أنا اللي تايه أنا
ويوم عذابي بسنة
سألني السائق بينما أردد الكلمات بصوت خفيض وراء المسجل، "حضرتك بتحبي حسن الأسمر يا أستاذة؟ بس ده قديم أوي عليكي!"
لم يتجاوز هو نفسه الأربعين سوى بقليل، وإن كان ما يفصلنا عقد من التجارب, لكنني وبشكل ما شعرت أنني تذوقت بعض ما يذوقه بالاندماج مع ما يسمع, موقف مشابه لسائق الميكروباص رفض أن يتقاضى مني أجرة للكرسي الزائد بعد أن دندنت مع غناء جورج وسوف لأغنية "قال إيه بيسألوني" فأعادها لي في نهاية الرحلة وهو يبتسم "عشان حضرتك سميعة".