القاهرة 16 ابريل 2019 الساعة 10:37 ص
كتب: د.محمد السيد إسماعيل
لم يبالغ د.جمال حماد حين شبه القاهرة بالرأس الكبير وشبه المحافظات والأقاليم الأخرى بالجسد الضامر, وقد علل هذه الظاهرة الغريبة بتمركز كل المصالح الحكومية والوزارات والإذاعة والتلفزيون فى القاهرة؛ وهو ما ترتب عليه الكثافة السكانية العالية داخلها, ولم تكن الثقافة بعيدة عن ذلك.
ومن هنا كان سعى كل الأدباء – أو نسبة كبيرة منهم – إلى الإقامة فى القاهرة مهما كانت " مدينة بلاقلب " حسب وصف الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى لها؛ ففى القاهرة يجد الأديب سواء أكان شاعرا أم روائيا أم كاتب قصة الإعلام المرئى والمسموع والمقروء والمنتديات الأدبية الكبيرة التى يستطيع من خلالها تحقيق شهرته الواسعة وهو شىء يعد عسيرا على أدباء الأقاليم الذين ظلوا فى مدنهم الصغيرة أو قراهم البعيدة.
ولهذا السبب غابت مواهب كثيرة لم يتم إلقاء الضوء عليها, ففى محافظة القليوبية على سبيل المثال لم يعد أحد يتذكر روائيا متميزا هو سمير ندا الذى ينتمى إلى جيل الستينيات, ولا يهتم أحد بشاعر أصيل أصدر العديد من الدواوين على نفقته الخاصة هو الشاعر محمد سليم خريبة الذى كتبت عنه وأنوى الكتابة مرة أخرى عن أعماله الجديدة, والأمر نفسه ينطبق على الروائى والكاتب القصصى فؤاد حجازى لإقامته فى المنصورة, فرغم الشهرة النسبية التى حققها من خلال سلسلة أدب الجماهير التى كان يشرف عليها فإن أحدا من النقاد لم يهتم بتجربته الروائية والقصصية, وقد انتبهت لذلك الأمر من سنوات فدرست روايته " الأسرى يقيمون المتاريس " فى كتابى " الرواية والسلطة ", وهى رواية تحكى عن مقاومة مجموعة من الجنود المصريين الأسرى لدى الكيان الصهيونى بعد نكسة 67 وكيفية مقاومتهم للقيود التى فرضها العدو عليهم.
ويمكننى أن أذكر كاتبا قصصيا متميزا تعرفت عليه من سنوات وأصد ر خمس مجموعات قصصية كتبت عن إحداها وهو الكاتب رضا إمام المظلوم حقا بسبب بعده عن القاهرة .
وإذا توقفنا أمام جيل السبعينيات الشعرى فسوف نجد أن أكثر شعراء هذا الجيل شهرة هم الذين أقاموا فى القاهرة وأنشأوا جماعات أدبية, مثل جماعة " إضاءة " و" أصوات " التى ضمت حسن طلب وحلمى سالم وجمال القصاص وأمجد ريان ومحمود نسيم ووليد منير, ومن شعراء العامية الشاعر ماجد
يوسف وجماعة " أصوات " التى ضمت الشعراء أحمد طه وعبد المقصود عبد الكريم وعبد المنعم رمضان ومحمد سليمان, وقد تحققت شهرة هؤلاء الشعراء – رغم أصولهم الريفية والجنوبية – بسبب وجودهم داخل القاهرة, بالإضافة – بكل تأكيد – إلى مواهبهم الكبيرة, فى حين ظلم من ظلوا داخل أقاليمهم ومن هؤلاء الشاعر جميل محمود عبد الرحمن والشاعر أوفى عبدالله الأنور اللذين ظلا فى سوهاج لم يبرحاها, والشاعر المهم المتميز صلاح اللقانى والشاعر فوزى خضر الذى حصل مؤخرا على جائزة عربية كبيرة فى مجال المسرح الشعرى, والشاعر أحمد فضل شبلول رغم دواوينه الكثيرة وجهوده الثقافية العامة.
وقد عبر الروائى وكاتب القصة السكندرى مصطفى نصر عن تجاهل الحركة النقدية لأعماله ولأعمال أدباء الأقاليم عامة حين قال فى أحد الحوارات معه: " بعدى عن القاهرة أبعدنى عن الانتشار ..القاهرة مدينة تصد وتحد من انتشار الأعمال التى تصدر خارجها وهذا الموقف يشمل الحركة النقدية التى تتجاهل مايصدر من إبداع خارج مدينة القاهرة " هذا ما قاله أحد أهم أدباء الإسكندرية الذى أصدر عشر روايات, بالإضافة إلى مجموعاته القصصية وهى روايات عالجت العديد من القضايا العامة مثل رواية "الصعود على جدار أملس " ورواية " إسكندرية 67" اللتين عالجتا نكسة السابع والستين, كما يبدو من عنوان الثانية ورواية " الجهينى " التى انتقدت بعض الممارسات فى التجربة الناصرية ورواية " يهود الاسكندرية " و"جبل ناعسة ", ورغم كل هذا فقد تجاهلته الحركة النقدية خاصة أن الاسكندرية قد عانت من ندرة نقادها بسبب سفر أستاذة الأدب والنقد فى كلية الآداب والتربية للعمل فى الخارج.
ومن مظاهر تهميش أدباء الأقاليم غياب المجلات الممثلة لهم فقد شاعت – فى فترة سابقة – هذه المجلات مثل مجلة " سنابل " التى كان يصدرها محمد عفيفى مطر أثناء عمله معلما لمادة الفلسفة فى المدارس الثانوية فى كفر الشيخ, وقد قدم فى هذه المجلة العديد من الأدباء الشبان كان أبرزهم الشاعر على قنديل الذى مات فى ريعان شبابه إثر حادثة مؤلمة .
أقول لقد اختفت هذه الظاهرة تقريبا ولم نعد نشهد إلا بعض المجلات التى تصدر عن بعض نوادى الأدب وتوزع على أعضاء النادى, والحل فى تصورى هو البعد عن مركزية القاهرة والعمل على إنشاء عواصم ثقافية فاعلة فى كل محافظات مصر, وأن يكون لكل محافظة مجلة ثقافية أدبية تعكس واقع الثقافة داخل كل محافظة, وأن يتم تفعيل نوادى الأدب ورفع ميزانيته .
ورغم أن مؤتمر أدباء الأقاليم الذى أصبح يسمى مؤتمر أدباء مصر يطبع كتب أبحاث جيدة, ويخصص محورا لأدباء المحافظة المضيفة؛ فإن هذه الكتب لا تطرح للبيع وتظل حبيسة الجداران, والمؤتمر نفسه الذى ينبغى أن يسلط الضوء على أدباء الأقاليم لاتنتقل فعالياته إلى المتلقى العام فى المدارس والنوادى والجامعات, كما ينبغى تفعيل التوصيات التى تصدر كل مؤتمر لأنها تعكس بحق هموم أدباء الأقاليم, وتضع لها العديد من الحلول الواقعية .