القاهرة 1 أبريل 2019 الساعة 02:20 م
كتبت : جيلان صلاح الدين
الحسيّة، تابو مقدس لدى صناع السينما العرب، فما بالك بصناع الدراما؟ بمتابعة أسلوب كاملة أبو ذكري الإخراجي، منذ فيلمها الطويل الأول "سنة أولى نصب" عام 2004، نجد أننا أمام فنانة ناضجة، تزداد قوة وثباتاً يوماً بعد يوم، تتفتح رؤيتها الإخراجية، وتبدأ قدراتها في التبلور حيث تيمات معينة أو نمط شديد الخصوصية في صنعتها وإدارتها لفنها.
مسلسل "واحة الغروب" على كل عيوبه التي يصب معظمها في انتمائه للوسيط التلفزيوني البعيد كل البعد عن الفن الحقيقي السينمائي الساحر، إلا أننا سنجد كل العوامل التي تشهد بأننا أمام لوحة فنية تعبيرية، مستلهمة من الفن التشكيلي، والطبيعة، والعمل الأدبي البديع، وتفاعل الأبطال والإضاءة التي خلقت جواً من السحر والقتامة والعزلة، بحيث أنك تشاهد المسلسل فتسلب الحلقة تلو الحلقة إرادتك، وتجد نفسك مشدوهاً بما يحدث أمامك على الشاشة، حتى وإن لم يعجبك، أو شعرت بإملال، لكنك أصبحت أسير الواحة، وحكاية كاثرين ومحمود وكل من يضعهم القدر في طريقهم العاثر.
ربما تكون حكاية مليكة هي الأكثر إثارة لتعاطف الناس، خاصة مع تصاعد الموجة النسوية المصرية الجديدة، والتي أصبحت تهلل لأي عمل فني يجعل من المرأة محور أحداثه، وإذا كانت الموجة النسوية الأولى ناصرية، قومية، تعلي من قيمة الانتماء للكيان الوطني، وانصهار المرأة في الكتلة الشعبية الملتحمة بالدولة، فالموجة الجديدة متخبطة، لا تعرف ماذا تأخذ من الموجة النسوية الثالثة العالمية، ولا ماذا تترك. بدون توجيه أو تخطيط قومي لتقنين هذه الممارسات النسائية النسوية وجدت النساء أنفسهن في حالة عنف مستمر، يتصاعد مع مسلسل مثل "لأعلى سعر" شديد التسطيح للعلاقات الانسانية والشعورية والنسائية/النسائية، ويخفت لدرجة الركاكة مع مسلسل مثل "خلصانة بشياكة" قد يكون بدأ بداية مبشرة في إسقاطه على الصراع الجندري الحديث، ثم أخذ ينحدر إلى مجموعة من الإفيهات المسروقة من ميمز memes وبوستات الفيسبوك.
ثم أتى مسلسل "واحة الغروب"، وأظهر مليكة شخصية غامضة، لا مبرر لتصرفاتها بالنسبة للجمهور العادي سوى أنها امرأة متمردة، خارجة على تقاليد المجتمع الرجعي الذي تنتمي إليه، لكن بالنسبة للمدقق في السر وراء كتابة مليكة بهذا الشكل يجب إليه العودة إلى الرواية، حيث مليكة مثليّة زاهدة كل الزهد في الزواج والرجال، والعودة لكتاب "نساء يركضن مع الذئاب" لكلاريسا بنكولا إستس، الباحثة المجتمعية والمعالجة النفسية الأمريكية، والتي أفردت فصولاً كاملة لوصف نمط المرأة الوحشية والذي قد لا تسمح هذه السطور بسرده.
مليكة امرأة وحشية، تتمسك بوحشيتها وجموحها وانتماءها للطبيعة وكل ما يخيف من حولها حتى أمها شخصياً، كحائط صد ضد الانتماء لمجتمع تكرهه، يفرض عليها أن تكون مثله وإلا يحكم عليها بالفناء. "الجميع يخشون جبل الموت إلا مليكة"، وربما لهذا لم تخشَ مليكة كاثرين، الأجنبية الملعونة التي يخشاها أهل الواحة كالطاعون، والتي تتسع عيناها شغفاً وانبهاراً بكل ما تقابل. وربما لهذا حبس محمود كاثرين في المنزل؛ كنوع من أنواع قمع المرأة الوحشية التي في داخلها أيضاً، والتي لولاها لما تزوجا من الأساس، لكنه أثقل كاهلها بالطهي والحياة المنزلية، وأفهمها أنها هي الغولة، هي الوحش المخيف الذي لا يجب أن يراه الناس.
ربما حبس أهل الواحة مليكة لمعتقداتهم وتقاليدهم عن الغولة الأرملة، لكن محمود خلق غولة من طراز آخر، وهي كاثرين الجميلة الشغوفة بالعالم، والتي تحولت إلى امرأة على شفا الانهيار، مهووسة به وبتفاصيل علاقتهما، غير قادرة على الفكاك من علاقة هي تعلم جيداً أنها لن تحصل منها على أكثر من هذا. ولهذا كان لقاء الغولتين أشبه بجودزيلا في مواجهة موثرا؛ عناقهما أيقظ الوحوش الكامنة في روحيهما، تناست كاثرين حبها الأبدي لمحمود، وتناست مليكة –المسلسل- إخلاصها لرضوان، في لحظة، ذابت الحواجز، همت الاثنتان ببعضهما البعض، وفي مشهد بديع، كادت قبلة أن تحدث، في مشهد حسيّ أنثوي ربما لم يكن له مثيل في الفن المصري بصفة عامة، والدراما بصفة خاصة، فعادةً ما تُصور المشاهد االحسية بين امرأتين في السينما المصرية بطريقة مباشرة فجة، غرضها إما تشيئ الممثلة الجميلة التي تظهر على الشاشة جنسياً، أو إثارة النفور والتقزز لدى المشاهد المصري المحافظ من الغواية المثليّة؛ من أول "الصعود إلى الهاوية" وحتى "حين ميسرة"، باستثناء كارلا في فيلم "رسائل البحر" لداوود عبد السيد، والذي أظهر أكثر شخصيات الفيلم جمالاً ومرحاً مثليّة بطريقة لا يستطيع المشاهد معها إلا أن يحبها، خاصة بعد أداء الممثلة سامية أسعد الناعم.
https://www.youtube.com/watch?v=5YZ_ER1N5c0
كان مشهد غواية مليكة وكاثرين لبعضهما البعض أبعد ما يكون عن تشيئ المرأة المثليّة بصورة تروق للمشاهد الذكر، الذي قد يستمتع في ظروف أخرى بامرأتين جميلتين تمارسان الحب في الفراش –على غرار غادة عبد الرازق وسمية الخشاب في "حين ميسرة" أو ليز سركسيان ومديحة كامل في "الصعود إلى الهاوية"- لكنهما هاهنا مبعثرتا الهيئة، متشككتان حتى في مشاعرهما وليدة اللحظة والوحدة والحرمان، في قبلة لم تكتمل ما وصفته كاثرين بالارتباك.
ماحدث بين كاثرين المسيحية المتدينة ومليكة ابنة الواحة المغلقة على نفسها، أنه زلزل نظرة كاثرين لنفسها كامرأة مغايرة الجنس، جعلها تتشكك في هويتها الجنسية ذاتها، وهي نظرة عميقة للغواية، والهوية الجنسية الثابتة، الجامدة كما مثلتها السينما المصرية على طول الخط، إما مغايرة أو مثليّة، أو أن يتم كتابة إحدى الشخصيات على أنها الشخصية المثليّة –الغواية- والشخصية المغايرة هي التي يتم غوايتها، وعادةً تعود الشخصية المغايرة لصوابها في النهاية، بعد ابتعادها عن الشخصية المثليّة المغوية.
في "واحة الغروب" لم تكن كاثرين غاوية أو امرأة تتم غوايتها على يد امرأة أخرى، بدا ما بينهما شكاً واضحاً وارتباكاً شعورياً وحسياً، موقفاً ملتبساً وُضعت فيه امرأتين مغايرتي الجنس، أحدهما أكثر ثقافة من الثانية مما يجعلها أكثر قدرة على استيعاب ما حدث. إنها تستطيع تطويع وحشيتها، وقمعها لو أرادت، لثقافتها، وانصياعها لوعي النظام المجتمعي الجمعيّ، أما الأخرى، فهي الوحشية والجهل مجسدين، لذا لم تستطع كبح جماح ما شعرت به، وانتهى بها الأمر صريعة الوحشية، بينما نعتها الأخرى في قلبها وروحها التي تلبستها.
ما فعلته كاملة أبو ذكري في إخراج المشهد بتلك الصورة، في صورة القبلة التي لم تكتمل، جعلنا نتذكر فيلم مثل "كارول" لتود هاينز، والذي كان بالطبع أكثر انفتاحاً في تصوير العلاقة المثليّة بين امرأتين وقعتا في الحب فجأة، فزلزل الحب كيانهما، والجنسانية "الطبيعية" التي فرضتها عليهما الظروف المجتمعية.
ما أثبتته كاملة من إدارتها للمشاهد الحسيّة بجدارة في واحة الغروب، يجعل الجميع يتمنى لو استطاعت إدارة دفة مشروعها السينمائي، ليشمل فيلماً مغرق في الحسيّة، فتكتشف في نفسها فنانة أخرى، ونكتشف عالماً أكثر التباساً مما نظن.