القاهرة 19 مارس 2019 الساعة 01:16 م
كتب: أحمد مصطفى الغـر
ظل طوال عمره يبحث عن الهوية والقضية في ثنايا قصيدته المفعمة بالأسئلة الوجودية، هى الهوية الأجمل لشعبه الذي احترف الحياة بقدر برغم صعوبتها، هو ليس بالشاعر العابر في الكلمات العابرة، بل هو الخالد في أشعار خالدة، إنه "محمود درويش" الذي يقف بالنسبة للشعب الفلسطيني كأيقونة ثقافية وأداة يعرفون بها أنفسهم، لأن كل واحد منهم يستطيع أن يجد شئ مشترك بينه وبين محمود درويش.
فالرجل الذي ولد في قرية البروة في العام 1941م عاش ما عاشه أبناء شعبه من تهجير وتدمير لمأواه الأول، قرية البروة الجليلية، وعاش الهجاج والتهجير كما عاشه أبناء الشعب الفلسطيني حين غادر وعائلته قسراً إلى جنوب لبنان، لجوء لم يستمر طويلاً حين قررت العائلة العودة خلسة إلى قرية دير الأسد، القرية التي تعلم في مدارسها محمود درويش، ثم تعرضه للاعتقال لخمس مرات بين سنوات 1964م و1969م والتضييق عليها حتى غادر فلسطين مضطراً في رحلة حملته من موسكو إلى القاهرة ثم إلى بيروت التي عشقها وكتب لها الكثير، حتى عودته مظفراً للمرة الأولى بعد خروجه الثاني في العام 1996م، في الوقت الذي كان يسعى فيه الفلسطينيون إلى الاعتراف بهم كشعب وكقضية.
كان "محمود درويش" يعطينا هذا الاعتراف عبر ترجمة أشعاره وكتاباته إلى لغات وصل عددها إلى أكثر من اثنين وعشرين لغة، وأيضاً الجوائز العالمية التي حصل عليها كانت بمثابة اعتراف آخر بنبل وعدالة القيم التي دافع عنها وتبناها، حتى الغضب العارم الذي اجتاح صدور الفلسطينيين بعد الخروج من بيروت وضياع حلم العائدين وأماني المنتظرين أمام أعينهم استطاع درويش التقاطه والتعبير عنه في "مديح الظل العالي" التي جاءت تعبيراً عن صوت جموع الغاضبين والباحثين عن أمل.
لقد كان "محمود درويش" يعيش خذلان فلسطين، وحرمانها، وقهرها، وحسرتها، كأنه هنا، كأنه مازال يسمع صوت مسيرات العودة، يسمع أصوات المعتقلين القادمة من أقبية التحقيق في سجون الاحتلال، ويسمع صوت ضربات السياط على ظهورهم، إن كان "ياسر عرفات" هو الفصل الأطول في تاريخ الشعب الفلسطيني كما وصفه "محمود درويش" في رثائه له، فإن "محمود درويش" نفسه هو الفصل الأجمل في تاريخ القضية أدبياً وإنسانياً، ففي الوقت الذي كان يشهد ضياع فلسطين وتهويدها كسرطان صنعه الغرب بعد انتصاره في الحروب العالمية وغرسه بعناية في جسد الأمة، كان ثمة شعراء قد ابتكروا الوطن البديل عن الواقع بشغفهم ومخيلتهم، من بينهم محمود درويش، فقد اندلع شعره ورفاقه سميح القاسم ومعين بسيسو وتوفيق زياد وآخرين بعد الهزيمة العربية عام 1967م، وكان شعر شعراء الأراضي المحتلة يرمم الهزيمة، ويتخيل وطن الحلم وكان شعر درويش مباشرا وحارا لكنه بعد خروجه من فلسطين واحتكاكه بالثقافة والشعر خارج فلسطين في القاهرة وبيروت بخاصة اكتسب أبعادا ثقافية وأسلوبية جديدة؛ فابتعد عن المباشرة والخطابة الشعرية واقترب أكثر من جوهر الشعر في الصورة والاستعارة والإيقاع، ولعل أجمل أشعاره قصيدة الجدارية التي كتبها بعد زيارة الموت...
"أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي
ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ
طُفُولَةٍ أَخرى.
ولم أَحلُمْ بأني
كنتُ أَحلُمُ .
كُلُّ شيءٍ واقعيٌّ
كُنْتُ أَعلَمُ أَنني أُلْقي بنفسي جانباً
وأَطيرُ سوف أكونُ ما سأَصيرُ في
الفَلَك الأَخيرِ".
أسئلة قصائد درويش ذهبت بعمق إلى الحياة ذاتها، لم تحقق تجربة شعرية عربية حضوراً في مسألة فلسطين كما فعلت تجربته، وخاصة فيما يخص القضية الفلسطينية بوصفها تراجيديا العصر، وعن درويش بوصفه شاعرها الذي تنكب عن كتابة قصيدة وطنية بالمعنى الشائع والمكرر، وذهب بموهبته ووجدانه معا نحو تلك التراجيديا بجزئياتها وتفاصيلها التي لا تحصى.
وقد تطورت تجربة درويش من خلال احتكاكه بالتجربة الشعرية العربية فى بدايتها، واستطاع أن يستوعب تلك التجارب، وأعاد صياغتها كى يخدم بها قضيته، ومن هنا برز فى المشهد الشعرى العربى كأحد شعراء المقامة، ونلاحظ ذلك فى النبرة العالية والصور المباشرة فى قصيدة (سجل أنا عربى)، ونسجت التجربة الدرويشية صورها وتعابيرها الشعرية من خلال (عاشق من فلسطين) و(أوراق الزيتون). ويصعب الآن أن نسميه شاعر المقاومة أو شاعر القضية، فقد طرأ تحول كبير فى التجربة الشعرية، التحول الذى أحدثه فى شعره كان فى فترة الثمانينيات، وتحديداً فى ديوانه (هى أغنية)، فقد جاء الديوان بشكل شعرى ولغوى جديد، فقد تحرر من الإرث الوطنى الذى حملة على عاتقه باعتباره شاعر فلسطين وشاعر القضية الفلسطينية، ولكن كلما ابتعد عن هذا الإرث ظل قريباً منه، فالقضية هى قضية مأساة جماعية، والملاحظ أن الشكل الشعرى الجديد الذى ظهر به بعد تجربة (أوراق الزيتون) هى أعمال حداثية بالمعنى الواضح للحداثة، وهى لا تشبه حداثة أي شاعر آخر، حداثة ظل مصراً أن يكتب من خلالها قصيدة التفعلية، وحررها من إرثها الثقيل ومزج بينها وبين قصيدة النثر، من دون أن ينحاز إلى أى شكل من أشكال كتابة القصيدة".
في 9 فبراير 1971م، وصل درويش إلى القاهرة، أول مدينةٍ عربيةٍ تطأها قدماه، وعقد ظهر الخميس 11 من فبراير مؤتمرًا التقى فيه بالكتَّاب والأدباءِ والشُّعراءِ والفنَّانين والمراسلين في مبنى الإذاعةِ والتليفزيون بالقاهرة، وقدَّمه محمد فائق وزير الإعلام المصري وقتذاك، وهو من قام بتعيين درويش مستشارًا ثقافيًّا لإذاعة صوت العرب عقب وصوله إلى القاهرة بأيَّامٍ، وفي مؤسَّسة الأهرام العريقة ، يوجد ملف درويش الذي يحملُ رقم 19788، ويتكوَّن من ثلاثة أجزاء.
إن تجربة درويش هي تجربة الرؤية التي شحذها الألم ففارقت تاريخيتها، وتوغلت في أسئلة الضياع الجمعي التي لا تلغي الألم الفردي ولا تتنكر له, هي فرادة النظر الشعري المسكون بالمآلات الكبرى للحياة وبوعي انتماءاتها العديدة وحتى المتناقضة.
لقد أسلم درويش الروح قبل 10 أعوام في إحدى مستشفيات هيوستن في الولايات المتحدة الأمريكية إثر عملية جراحية لم يتحمل تبعاتها قلبه الذي ملَّ من الجراحات، لكنه لم يمل من الشعر والحب والحياة، ومازالت أشعاره تتردد، وتتغلغل في أرواحنا ووجداننا، وتناصر القضية. رحل وهو يهدينا
"تحيّة.. وقبلة
وليس عندي ما أقول بعد
من أين أبتدي؟.. وأين أنتهي؟
ودورة الزمان دون حد
وكل ما في غربتي
زوادة ، فيها رغيف يابس، ووجد
ودفتر يحمل عني بعض ما حملت
بصقت في صفحاته ما ضاق بي من حقد
من أين أبتدي؟
وكل ما قيل و ما يقال بعد غد
لا ينتهي بضمة.. أو لمسة من يد
لا يرجع الغريب للديار
لا ينزل الأمطار".