القاهرة 19 مارس 2019 الساعة 12:51 م
كتب : طلعت رضوان
أعتقد أنّ تهريب الآثارالمصرية، النموذج الصارخ لغياب الحس القومى، بينما لو توافر الحس القومى فإنّ فكرة سرقة تراث الجدود، ليس لها وجود عند الكثير من الشعوب.. مثل اليونان والمكسيك والصين والهند..إلخ.. ولكن فى مصر فإنّ المُـنحرفين من جامعى الأموال، يعتبرون سرقة التمثال مثل سرقة ماسورة الصرف الصحى .. ولا يكاد يمر يوم أو أسبوع إلا وتنشر الصحف (بعض) نماذج السرقات.. ومن بينها خبر بيع الآثار المصرية فى باريس.. وأنه منذ سنوت طويلة خرجتْ كميات كبيرة من القطع الأثرية من مصر إلى الخارج.. وبدأتْ تظهر فى العديد من معارض ومتاحف العالم (أهرام15يوليو2018) والخبر طويل وبه الكثير من التفاصيل المهمة عن سرقة آثار مصر.
تمتلك مصر أكثر من 75% من آثار العالم, وهذه الثروة التى تركها جدودنا تــُـعتبرأحد أهم عوامل جذب السياحة, ورغم ذلك تتدنى أرقام السياح الذين يزورون مصرمقارنة بدول أخرى مثل تركيا وإسبانيا إلخ..
والآثارالمصرية كانتْ تـُحتـــّـم وجود علماء فى التنقيب عن الآثار, ولكن للأسف لازال هذا التخصص بعيدًا عن المنهج العلمى من ناحية, مع نـُـدرة العلماء المصريين فى هذا المجال. لقد كان للعلماء الأوروبيين الفضل فى اكتشاف الآثارالمصرية (وكان للعالم أوجست مارييت دورًا مهمًا فى إنشاء المتحف المصرى عام 1858فى بولاق وكان مديرًا للآثارالمصرية, وقام بترميم المعابد وحصركل الآثار والتحف التى يمكن أنْ تتعرّض للنهب ونقلها إلى القاهرة) وإذا كان الأمرمفهومًا فى حِقبْ الاستعمار، فكان يجب بعد وصول حكـّام وطنيين (أى ليسوا أجانب مُحتلين) أنْ ينال علم التنقيب عن الآثارما يستحقه من رعاية، التى كانتْ ستـُحقق لمصرنا ثلاثة أهداف: الأول توفيرالمناخ العلمى بحيث يأخذ هذا العلم صفة الاستمرار، وبالتالى عدم الاعتماد على علماء التنقيب الأجانب. الثانى توفير المبالغ التى يحصل عليها علماء التنقيب الأجانب, وعدم حصولهم على نسبة من الآثارالمُكتشفة وفقـــًا للقانون المعمول به فى هذا الشأن. الثالث وفقـــًا لقانون التراكم الكمى الذى يؤدى إلى تغير كيفى (فى ظل منظومة وطنية جادة) فإنّ علماء التنقيب المصريين سيكتسبون الخبرة التى ترفع من شأنهم عالميًا؛ وبذا يكون الطلب عليهم من كافة الدول التى تبحث عن آثارها، أى سيكون هؤلاء المصريون خبراء عالميين فى علم التنقيب وهو أمر سيرفع من شأن مصر، ناهيك عن العائد المادى الذى سيعود نتيجة التعاقدات العالمية.
وسرقة الآثارالمصرية تفضحها الصحافة العالمية., وأنّ التهريب يتم بمعرفة بعض كبارالمسئولين المصريين, ومن أشهرالأمثلة على ذلك ماورد فى شهادة (مارك بيرى) المتورط فى قضية تهريب الآثار الكبرى من مصر إلى لندن, حيث قال فى التحقيق معه أنّ (ضابطــًـا فى البوليس المصرى برتبة لواء كان يتابع عملية تهريبه للآثارالمصرية من مطارالقاهرة) (أهرام7فبراير1997) والجدير بالملاحظة أنّ الكشف عن هذه العملية تمّـتْ بمحض المصادفة، حيث أنّ مواطنــًـا بريطانيـًـا شاهد فى أحد المعارض بعض الآثارالمصرية, وبخبرته عرف أنها (أصلية) وتذكر أنه رآها فى المتحف المصرى, فبادر بإبلاغ الشرطة الإنجليزية التى تولــّـتْ التحقيق.
وإذا كان كثيرون يـُـردّدون مقولة : إنّ الفساد موجودٌ فى معظم دول العالم؛ فإنّ أنواعه تختلف من بلد لآخر, وهذا الاختلاف يحكمه عاملان : الأول وجود آلية الديمقراطية أو غيابها؛ فالدول الديمقراطية لا تعترف بقداسة الشحصيات العامة, والدليل أنّ الشرطة الإسرائيلية استدعتْ رئيس الوزراء نيتانياهو فى عام 2018 لأنه تلقى رشوة من البعض, وهذه ليست المرة الأولى حيث سبق التحقيق معه أكثر من مرة (أهرام18، 19قبراير97) وكذلك زوجته لأنها تناولتْ الطعام فى أحد المطاعم ولم تدفع الحساب, وفى سابقة أخرى خضعتْ للتحقيق داخل مكتب مكافحة الفساد للإشتباه بإنفاقها أموالا عامة، لدفع مصاريف منزلية, وهو الخبر الذى أكــّـدته الإذاعة الإسرائيلية.
العامل الثانى : هو الحس القومى, وهو مسئولية الشعوب والحكام؛ فالشعب الذى يـُـدرك القيمة الحضارية لتاريخه وتراثه، يضع عــُـرفــًـا لحدود الفساد, فلواء الشرطة (المصرى) الذى شارك فى تهريب الأثارالمصرية، تربى تحت سنابك ثقافة سائدة روّجتْ لمقولة أنّ الحضارة المصرية (وثنية) وبالتالى يجب تدمير آثارها, وإذا كان التدمير واجبـًـا دينيـًـا فلابأس من سرقتها, وسرقة (الوثنيات) حلال وفقــًـا للفقه الإسلامى لأنها من ((بدع الكفار))!
وتحت سنابك هذه الثقافة فإنّ صحفيـًـا أهراميـًـا (كبيرًا) صاحب مربع يومى (أو قفص وفق تعبير الناقد المحترم محمد مندور) اقترح (تحطيم الأحجار التى تسقط من الهرم الأكبر إلى قطع صغيرة، توضع فى سلسلة مفاتيح وبيع الواحدة بعشرة دولارات للسياح (أهرام8يونيو1991) فلو أنّ هذا الصحفى يـُـحرّكه حس بقوميته المصرية، لطالب بإعادة الأحجار المتساقطة, وليس اقتراح الهدم من أجل حفنة دولارات! ومع غياب الحس القومى فإنّ هذه الدعوة المُـدمرة لم يتصد لها إلاّ بعض المصريين فى بريد الأهرام, وتجاهلها المثقفون باستثناء الرحل الجليل بيومى قنديل الذى كتب (إنّ الأستاذ الفاضل قارن بين هذه الفكرة التى طرحها تحت عنوان : أفكار وبيع إسرائيل لهواء القدس فى علب صغيرة خالية لكنها "مباركة" فإسرائيل لم تفكر لحظة فى بيع قطعة واحدة من آثارها أو تراثها، سواء سقطتْ تحت وطأة الزمن أو الجور أو الاهمال، بل تبيع ثروة متجددة بإستمرار.. لكن الأستاذ الأهرامى الفاضل يدعو إلى بيع حجر أو اثنيْن من الأحجار المتساقطة، أى بيع ثروة غيرمُـتجددة.. وحتى لو كان العزم مُـبيتــًـا على مساعدة الزمن.. كى يتدخل بإسقاط آخر فآخر كلما سال اللعاب للأخضرالساحق.. وهذا أمر مُـرجـّـح فى ضوء عبادة المال وشعار"كل شىء للبيع" والسؤال الوحيد هو بكم ؟ وفى هذه الحالة نتمكن من هدم الهرم الأكبر الذى يـُـعتبر الأعجوبة الأولى من عجائب الدنيا.. ووقف نابليون أمامه وقال : إنّ أمة تستطيع أن تبنى لنفسها قلبــًـا من حجرعلى هذا النحو لجديرة أنْ تعيش إلى الأبد" واختتم قنديل مقاله قائلا ((إننى لا أدرى ما إذا كنتُ أتقدم بالشكر لأولئك الأجانب الذين سيتبركون بمثل تلك الميدالية الحجرية، لأنها جزء من الهرم الأكبر، أم أعتب على الذين يمكن أنْ تطرأ على أذهانهم مثل هذه الأفكار الهدامة)) (صحيفة الأخبار12يونيو91)
أعتقد أنّ القضاء على ظاهرة سرقة الآثار المصرية، لن يتم إلاّ بعد تعميق وترسيخ الاعتزاز بمجمل الحضارة المصرية, وهذا الدور هو مهمة التعليم والإعلام ومجمل الثقافة السائدة.