القاهرة 19 مارس 2019 الساعة 12:46 م
كتب : د. حمدى سليمان
ينتمى الشاعر عبده المصرى صاحب ديوان " الورد عابر سبيل", إلى جيل الثمانينيات, ذلك الجيل الموهوب الذى مر كعابر سبيل على حياتنا الثقافية, وتم تهميشه من قبل المرحلة وما تلاها من مراحل, لأسباب منها ما يخص ظروفه التاريخية, وأخرى ربما تخص سطوة الأجيال السابقة على الحياة الثقافية, حيث بدأ هذا الجيل مشواره الإبداعى فى ظل أجواء مشحونة بالتوتر والاضطراب السياسى والاجتماعى والاقتصادى فى مصر, فقد شهد بداية هذا العقد اغتيال الرئيس أنور السادات على يد الجماعات الإسلامية المتطرفة, ودخول البلاد فى موجة من العمليات الإرهابية التى ألقت بظلالها على كافة مناحى الحياة, وتوارت الحياة الثقافية, حيث تراجع دور الدولة, وظهور القطاع الخاص بثقافته الاستهلاكية وأفكاره السطحية, ومغازلته للثقافة الخليجية السلفية, إضافة لجمود الحياة السياسية, واحتواء النظام لرموز اليسار الثقافية, كما عاصر هذا الجيل كل تحولات المجتمع من أفراحه بانتصارات أكتوبر والتى لم تدم كثيرا إلى كبواته وازماته المختلفة, فهو شاهد حي على هذه النقلة الجبارة التي انتقلت بمجتمعاتنا من كلاسيكيات الزمن الجميل بأصالته وقيمه وأحلامع، إلى عصر الأفكار الظلامية, والثقافة الاستهلاكية, وتواكب ذلك مع التغيرات التى شهدها المسرح العالمى من انتهاء الحرب الباردة وسقوط الأيديولوجيات الكبرى, وتراجع الأحلام الاشتراكية, وتحكم القوى الأمريكية بالمشهد العالمى, كل هذا وأكثر كان حجر عثرة أمام أحلام وطموحات هذا الجيل, الذى ظلت أحلامه تطارده وتلح على إعادة احيائها, مهما كان فيها من عثرات, خاصة وإن كانت مع أشخاص وأشياء, تحبها وتستدفئ بمشاعرها النبيلة عبر هذه الرحلة الطويلة, وهو ما جعلها تحتفظ بتلك الأحلام بعيدا بعيدا فى فضاءات الروح, فعلى الرغم مما تغرقها فيه الحياة من مشكلات وتفاصيل المفرد اليومى, إلا أنها كانت على استعداد طوال الوقت لهذه اللحظة, لحظة تتقابل فيها مع ذكرياتها فتقرأها ومع البشر فنتأملهم, لتشعر حينها أن شيئا ما يتراكم ويتراكم ثم يضغط ملحا على البوح والكشف عن مشاويرها التى قطعتها وأيامها التى ربما تشبه كثيرا ما نحن عليه الآن.
بيختفوا.. وتفضل الأسامى/ خطوط من الحنين/ فى صفحه فرت من كتاب/ وبين غياب وغياب/ بتظهر الوشوش/ تونس الصحاب.
وإمعانا في الذكريات فالذات الشاعرة فى هذا الديوان لا تعرف إذا كانت هى ومن تحب أحياءا أم أمواتا، فلا عدم هناك، ولا معنى هنا لشيء بدونهم، هذه الأسئلة الحائرة هى التي تؤجج لدى الشاعر مبدأ الرغبة الذى يصل بين الوعى واللاوعى في امتلاك شجاعة التحديق في الماضى، وطرح الأسئلة ومجادلة ما استقر عليه الوعى والواقع.
إلي عصمت النمر..
صحيح يا عصمت/ النكد ما بقاش يخاف ولا يختشى / بيخش فى القلب ويمزع/ الذكريات والحلم وحتى باقى الضحك / ولا يخللى اشى/ مارق كما السهم/ منتشى/ ما فضلش غير اللص والمرتشى/ وكل طيب جميل / غرقان فى بحرى مشي/ وخد فى ايده الصحاب / وساب غبا وغياب/ وقطيع من الدياب/ بحزننا ينتشى.
وتستمر النصوص فى فضح الواقع, ذلك المخادع المراوغ, المتعطش لالتهام الماضى والحاضر والمستقبل, عبر خطاب شعرى شديد الدلالة والتدفق والجرأة، خطاب يتسلل لما يريد عبر صور رومانسية بسيطة، حتى يصل إلى مراده وهو كشف الزيف الطافح على كل مناحى حياتنا.
حلم..
حلمت حلم غريب / كانى ضيف ع الأرض / نازل اسلم على صوره بتشبهنى/ ملامحها نفس الملامح / وكنت لابس هدوم من دموع / وايديا بتفوت فى الحيطان / وبشوفنى عيل صغير بيجرى قدامى/ سالتنى عن مكانى/ وقالى يخلق م الشبه أربعين / وقمت متغرق بدم مش دمى.
يكمل الشاعر مشواره فى رحلة البحث عن ذاته, عبر مناطق دافئة مختبئة فى القلب، تخرج فى صورة أحلام يتم استدراجها إلى عوالم مجازية حتى تتحول إلى كوابيس مزعجة ومرعبة, والحلم هنا أو الرؤيا هو المدى الذي تتحرك فيه القصيدة، خصوصاً حين تمارس لعبة الوعى واللاوعى, التى بدورها تعد استجابة لدوافع غامضة، دوافع مرتبكة بين عالم من الرموز، فالشاعر هنا يلعب معنا لعبة الحلم، لعبة يقدمها ضمير المتكلم " الذات الشاعرة" في صورة تفاصيل حميمة، تخشى النسيان والنفى، وتبحث عن حضور حقيقى على هذه الأرض، إلا أن تلك الروح المغتربة تجد نفسها فى نهاية المطاف غارقة فى دماء ليست لها, لكنها تشبهها حيث أنها تدافع عن نفس الحلم وتتعرض لذات القهر.
إلى ليلى أحمد..
تاهت طبعا فى الملكوت/ ألف قصيدة وفيها بيوت/ ناسها بتحيا وناسى تموت/ توتها المر فى طرف لسانى/ لا اللى بناها كان حلوانى/ ولا عارف سكته للبيت/ كان حاوى وقلع الزعبوط/ تاهت منى فى غمضة عين/ فى الحرب اللى ما بينى وبينى/ فى الاوهام اللى بترمينى/ فى الموج اللى بيعلا ويحدف/ على البر الحلم المربوط/ تاهت طبعا فى الملكوت.
الخطاب الشعرى هنا غير منفصل عن معناه، ذلك المعنى الذى يتسرب إلينا عبر الإيقاع المتتالى، مقدما رؤى وأفكار ساخرة تعبر عن ضياع الحلم، فالملكوت هنا هو تلك العوالم المجهولة, التى لا تستطيع أن تتخطاها المخلوقات العادية, فما بالنا لو كانت مخلوقات يلازمها سوء الحظ، فالحكاية ملتبسة من بدايتها ما بين الحلم والأوهام, وقدرة هذا الحلم على مواجهة القهر التاريخى, حيث لا يستطيع المرور هنا غير الحواه والمهرجين الذين يمتلكون فنون اللوع والمراوغة والتحايل، هكذا تخبرنا ثقافتنا الشعبية حينما تستدعى خبراتها التاريخية في مواجهة الواقع الضاغط، حيث يبقى الحلم معلقا إلى أن تحققه ال.....
عزازي على عزازي..
مات عزازي/ ودخل فى طابور الأموات/ أصحاب وجيران/ وبنات صبيان/ واعمام اخوال/ فى الحرب على سريرك / وصحيح عيان/ فى الاخر مات/ كما مات اصحاب ورفاقه / وماعدش باقى لك منهم/ غير ضل لضحكه قديمة/ وملامح وش يتوه/ وبواقى كلام بيدوب/ فى الشاى والقهوة.
دخول مختلف صادم ومباشر إلى فضاء الذاكرة، يأخذنا إليه هذا النص المكتوب بطريقة النفس الطويل، والسرد المتدفق، في مشهد درامى يتصاعد إيقاعه كلما توغلنا في قراءة النص, وهو أسلوب يهدف إلى دفع القارئ للاستمرار وعدم التوقف في نهايات الأسطر لكي تظهر القصيدة وحدة واحدة متماسكة، مما يعطى للشعرية داخل النص زخما متميزا, وربما يرجع ذلك لثراء وتنوع عالم الشخصية المرثاة فى هذا النص, وهو الناقد والمثقف والمناضل الراحل الدكتور عزازى على عزازى, الذى كان رحيله المفاجىء والخاطف صدمة للجميع, وهو ما يشير إلى فكرة الحظ العاثر والأحلام المبتورة لهذا الجيل.
كوابيس.. أحلامنا كوابيسنا/ الكومى اللى يقش/ فى الزحمه ملامحنا/ تتبعتر ارواحنا/ ودموعنا تفضحنا/ لما الضلمه تخش/ احلامنا كراريسنا/ مليناها بشخابيطنا/ والدم اللى حاوطنا/ وقاسمنا فرشتنا / ووشوشنا المبتسمه/ ووشوشنا الكدابه/ احلامنا كوابيسنا.
ومع تدفق النصوص نكتشف أن الذات الشاعرة تمتلئ بالحيرة، وتنهض بداخلها العديد من التساؤلات عن مغزى الحياة، ومشروعية التحولات التي يشهدها واقعنا بكل ما يحمله ذلك الواقع من تناقضات وإحباطات تصل في بعض الأحيان لانكسارات مؤلمة، خاصة لدى الأجيال الجديدة، التى تتطلع لمستقبل أفضل، وتحلم بفضاءات أكثر براحا، وهو حق إنسانى أصيل، إلا أن هناك أيادِ خفية تحول هذه الأحلام إلى كوابيس.
إلى ياسر الزيات..
بص يا ياسر/ أنا لا أنا فاتح شيش ولا قافله / أنا صليت للحزن الفرض وكل نوافله/ يعنى ساعات أشتاق لزهور فى الطاولة / أبيض فى أسود/ ومن غير بن ومن غير ريحة/ جتة جريحة وقابلت صدفة جتة جريحة/ كان الدم على الترابيزة/ عود نعناع بيبوح بمحاسنه/ يعنى بدال الخوف مايجينا / ما تيجى نروحله/ يمكن عايز يشرب شاى.
هذا العالم الذي تسترجعه المخيلة الشعرية يخلق علاقة جدلية بين الواقع والماضى الأكثر إنسانية من وجهة نظر الذات الشاعرة, التى تناجي رفقاء الرحلة بلغة ومفردات على بساطتها إلا أنها تصنع قدرا كبيرا من الحميمية والدفء, فقد كانت جلسات لعب الطاولة والشعر والسياسة والنميمة التى احتضنتها مقاهى وسط البلد وخاصة مقهى زهرة البستان, تمثل متنفس وجانب أصيل من تجربة هذا الجيل, وهو ما يشير إلى أن الدوافع الوجدانية لهذه التجربة هى التى تخفف من أعباء الواقع المؤلم، عبر الهروب إلى فضاءات الذاكرة, التى تشكل فى حد ذاتها بابا للتمرد على الواقع، ليس هربا منه وإنما بطرح بدائل أكثر إنسانية، تستطيع الحياة فيها والتنفس بحرية داخلها قبل أن تمضى الأيام, كما أنها محاولة لدعم الذات ومواجهة الخوف, وصنع حالة من التوازن الذى يحفظ لها قليلا من الأمنيات والذكريات التى حُرمت منها نظرا لظروف خارجة عن إرادتها.
وبشكل عام يمكننا القول أن بنية ديوان " الورد عابر سبيل " فى كثير من نصوصه ترتبط بالصور الأولية للتجارب والأصدقاء والحياة التي عاشها الشاعر ورفاقه من جيل الثمانينات وغيرهم، فهو يتأمل كل الأحداث ويستعيد ذاكرته للهروب من الآني، لتبقى الحيرة والتردد وإيثار الأسئلة هى طابع هذه التجربة، التى تخلق لنفسها إيقاعا خفى يتسرب إلينا عبر تدفق الصور والغوص فى التفاصيل وسلاسة النفس الشعرى, كما تؤكد الإشارات والرموز الدلالية في هذا الديوان أن الذات الشاعرة غير منفصلة عن مرجعيتها الواقعية, لكنها تحاول الانفلات من قبضة الواقع وعبثيته التى تفسد كل شىء, والواقع هنا ممثلا فى الأنظمة المستبدة المختلفة, التى طالما عملت على تغييبنا, عبر تصدير الخوف وتسييد حالة الرعب, وتكميم الأفواه والانفراد بالمشهد كاملا.