القاهرة 12 مارس 2019 الساعة 11:02 ص
بقلم: سارة السهيل - الأردن
منحني القدر فرصة ذهبية في أول لقاء لي بالقاهرة أن أعبر مخاوف لقاء الجماهير وتقديم أولي تجاربي في أدب الطفل بمعرض كتاب القاهرة الدولي بلقاء المبدع الكبير الأستاذ يعقوب الشاروني الذي أزال رهبتي وأشعرني بالطمأنينة وحفزني علي مواصلة كتابتي للأطفال.
فقد أخذني على بساط عالمه الطفولي الكوني وسبحت معه في فضاءات وخيالات وجموح الطفولة وهو يسعي لاكتشاف العالم من حوله ويحاول إيجاد أجوبة لما يحيط بنا من علامات استفهام ملغزة سرعان ما تسطيع فطرة الطفولة المحلقة أن تجد لها تفسيرات عديدة قد يعجز عالم الكبار أو يفك طلاسمها.
فكاتبنا الكبير يعقوب الشاروني (رائد أدب الطفل مواليد 1931) ظل محافظًا رغم مرور السنين علي روح الطفولة المغامرة في أرجاء الكون لاكتساب المعرفة نقلها بحس أدبي لكل طفل في العالم، كطائر يطير بجناحيه ليتزود بخبرات الطفولة وبراءتها وانفتاحها علي كل العوالم، فقدم بذلك نماذج مبدعة للطفل البطل.
فقد انتصر الشاروني للطفل بكل جوارحه وقدمه بطلاً فاعلاً ومتفاعلاً في الكون قادرًا علي نشر قيم الحب والمساواة والتآخي والتعاون مقدمًا خلال هذه الرحلة الطويلة من الإبداع في أدب الطفل ما يزيد عن أربعمائة مؤلف استوحي معظمها من قصص واقعية مما جعله أكثر قربًا من أطفال العالم.
وأستاذنا الشاروني هجر محطة التراث الشعبي كما هجر عالم الأسطورة، ليقدم لنا قصصًا من دم ولحم ومستقاة من الواقع الاجتماعي ومشكلاته، فعالج من خلال معايشته لهذا الواقع، مشكلات العدالة، الحرية، المساواة، وبث خلال قصصه قيم احترام الأسرة والتسامح والتكافل وتقديس العمل والعلم والإبداع ومواكبة العلوم العصرية.
ورائدنا الكبير لم يترك مجالاً إنسانيًّا في حياتنا إلا وعالجه في إبداعه للأطفال سواء كان علميًّا أو صحيًّا أو ثقافيًّا أو حتى وطنيًّا كما تجلي في قصتي "النصر أو الشهادة" و"رفعنا العلم".
ولا غرابة من غزارة إنتاج كاتبنا يعقوب الشاروني في إبداع قصص الأطفال (أكثر من أربعمائة قصة وعشرات الدراسات والكتب عن عالم الطفل) لأنه عايش أجيال مختلفة ومتعاقبة من الأطفال طوال أكثر من 63 عامًا، وقدم لهم مئات الكتب التي حاز عدد كبير منها على جوائز محلية ودولية.
ووفق تجربتي، فإنه لا يمكن لأي كاتب أطفال أن يواصل عطائه ومسيرته دونما الوقوف على محطات رائدنا الكبير، لأنه نجح في جعل قصصه للأطفال عالم خصب من الخيال والقيم والمتعة التي يستمتع بها الصغار والكبار معًا، وهو ما وصفته د.سهير القلماوي حين فاز بجائزة أحسن كاتب للأطفال عام 1981 عن قصة "سر الاختفاء العجيب" قائلة: "مؤلفها لا يعرفه الأطفال فقط معرفة جيدة وإنما نعرفه نحن أيضًا الكبار حين نقرأ قصصه لنقصها على الصغار، نقرؤها لأن في أعماقنا طفلاً لا يزال يطرب لقصة أطفال".
والمتأمل في إبداع الشاروني يجد عبقرية في سهولة الأفكار والخيال والقيم بمعزل عن الوعظ والإرشاد أو المباشرة الفجة التي ينفر منها الأطفال، فقد عاش الشاروني بروح الطفل ووجدانه يعرف ما يحتاجه وما يسعده وما يشغل فكره وينمي معرفته ويشحذ طاقته الروحية والعقلية معًا.
وإذا كان أديبنا العربي نجيب محفوظ قد غاص في المحلية عبر قصصه ورواياته العظيمة فوصل بها إلى العالمية، كذلك انطلق مبدعنا يعقوب الشاروني من المحلية في قصصه للأطفال ووصل بها للعالمية بعد ترجمتها إلى ست لغات، كما أنه صاحب جائزة أفضل كتاب على مستوي العالم في معرض بولونيا عام 2002.
فأنسنة القضايا التي عالجها الأديب الشاروني في إبداعه للأطفال يظل عاملاً رئيسيًّا في وصول أدبه للعالمية، خاصة وأنه يكتب بروح العصر ومعطياته من رمزية المعني والتحليل النفسي واللغة البسيطة المعبرة تاركًا للقارئ صغيرًا كان أو كبيرًا مهمة قراءة نصه كما يشاء فتضاف للقصة الواحدة قراءات عديدة.
قد تتعدد الألقاب التي يمكن أن نطلقها على أديبنا الكبير يعقوب الشاروني، لكني أحب أن اطلق عليه حكاء الطفولة، ليس فقط لغزارة إنتاجه القصصي، ولكن منطلق ما يملكه من حس للحكاية وكأنه قد رضع فن الحكي وولد في المهد حكاءًا، ولما شب عن الطوق صارمفتونًا بالحكاية مأخوذًا إلي فضاءاتها المدهشة وشغفها الموصل بالمعرفة الكونية والإنسانية، وخوض المغامرات الصعبة لاكتشاف العالم والتأثير فيه وهو صنعه تمامًا في أدبه للأطفال ولذلك جاءت شخصيات أدبه مفعمة بالحياة نابضة بالفكر والحركة والعمل.
لذلك عبرت "موسوعة أعلام الفكر العربي" عن قدرة يعقوب الشاروني على جذب الصغار والكبار لأعماله، واصفة إياها بأنها "تتميز بالحس الإنساني المرهف وقدرتها على جذب الصغار والكبار لمضمونها المعاصر المتصل بالمواقف الحياتية وما فيها من شخصيات نابضة بالحياة حتى يشعر القارئ بأنه يعرفها، بالإضافة إلى حيوية الحوار الذي يجيد الشاروني إبداعه للتعبير عن حقيقة الشخصيات وتجسيد المواقف".
إن تجربة مبدعنا الكبير يعقوب الشاروني تستحق من كل الأجيال أن تقف عندها تتأملها لتستفيد منها، لتعرف كيف تكون نفسها لتعبر عنها بطمأنينة وتحقق أحلامها في أي مجال من مجالات الحياة المختلفة. فشغف الكتابة لدى الشاروني قد انطلق من حكايات الجدة وقصصها المشوقة، والشغف بالقراءة في سن مبكرة وفي مختلف مجالات المعرفة.
فن الحكاية التي ملكت عقل الشاروني ووجدانه وسمائه وأرضه، جعله يترك عمله بالقضاء ليتفرغ للكتابة للأطفال، فقد حدد الشاروني مستقبله ورسم خارطة أيامه كلها في محضن الطفل والطفولة، ليؤسس فن الحكاية للأطفال وفق معطيات عصره، وأفني عمره كله في هذا الحقل الصعب، لكنه في المقابل رسخ هذا اللون الأدبي في تربة الإبداع العربي بروح إنسانية وثابة للحق والعدل والحرية، وحفر اسمه بحروف من ذهب في إبداع أدب الطفل وصار مرجعًا لكل موهبة تشق طريقها في هذا الميدان، ولذلك توجت مسيرته بالعشرات من الجوائز المحلية العربية والعالمية.
نجح الشاروني في تجديد أدواته الإبداعية من تشويق وإثارة وحبكة فنية والقدرة علي التقاط كل مجمل التغيرات الاجتماعية خلال مسيرته ومعالجتها بما يناسب إشكاليات عصرها مثلما نجد في روايته "سر الاختفاء العجيب" الفائزة بجائزة "أفضل كاتب للأطفال 1979"، وكان بطل الرواية صبيًّا 12 عامًا مُصابًا بشلل الأطفال في إحدى ساقيه، ونجح في إنقاذ صديقًا له سقط في بئر مقبرة فرعونية مجهولة.
كما حصدت روايته في الخيال العلمي "سفن الأشياء الممنوعة" بجائزة الدولة لأدب الأطفال على مستوى الوطن العربي من دولة قطر عام 2014، وكذلك روايته "ليلة النار" التي فازت عام 2016 بجائزة المجلس العالمي لكتب الأطفال بسويسرا، وتدور أحداثها في منطقة عشوائية تكاتف أهلها لمواجهة كارثة احتراق السوق الذي هو مصدرًا لمعيشتهم.
ومن الجدير بالتقدير في مسيرة أستاذنا يعقوب الشاروني أنه قدم صورة إيجابية حية عن الفتاة والمرأة، ليس بوصفها خاضعة مستسلمة كما كانت الكتابات العربية السابقة عليه، بل بوصفها شخصية قيادية مبهرة كما فى رواية "سر ملكة الملوك" الملكة حتشبسوت التي قادت شعبًا منذ آلاف السنين.
كما قدم شخصية الفتاة "حسناء" ذات الإرادة الصلبة في تحديها للصعاب، وغضب الطبيعة في قصة "حسناء والثعبان الملكي". وفي مسرحيته "أبطال بلدنا" ينتصر لبطولة قطر الندى الشابَّة المصريَّة التي خطفها الفرنسيون، وقدَّمت حياتها قربانًا لحريتها ووطنها على يد جندي فرنسي عندما حاولت الفرار من الأسر سباحة بالنيل. وفي قصة "الأمير الجبان" يؤكد قدرة المرأة علي قيادة الجيوش، وذلك عندما تخفت أميرة بزي الرجال لقيادة الجيش، ليؤكّد تفوقها على الرجال.
كان وسيظل أستاذنا يعقوب الشاروني علمًا على فن الحكاية للطفل وللكبير معًا.