القاهرة 05 مارس 2019 الساعة 10:29 ص
كتب : عاطف محمد عبد المجيد
في مقدمته للطبعة الجديدة من كتابه " قراءة التراث النقدي " الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يقول د.جابر عصفور إنه منشغل، منذ سنوات طويلة، بقراءة التراث النقدي بوصفها عملية مُلحة لها أهميتها في ذاتها، وبوصفها عملية صغرى مرتبطة بعملية كبرى هي قراءة التراث بوجه عام؛ هنا يدرك الكاتب أن الإلحاح على قراءة التراث هو الوجه الآخر من الإلحاح على قراءة الواقع، مثلما يعلن عن اقتناعه بأنه لا توجد قراءة بريئة أو محايدة للتراث، لأننا عندما نقرأ التراث ننطلق من مواقف فكرية محددة لا سبيل إلى تجاهلها، ونفتش في التراث عن عناصر للقيمة الموجبة أو السالبة. في كتابه هذا يطرح عصفور عددًا من الأسئلة المهمة منها ما هو التراث النقدي؟ ولماذا نقرؤه وكيف؟ وكيف نحول هذه القراءة إلى عملية تسهم في تطوير وعينا بواقعنا وتراثنا في آن؟ وما هي حدود الموضوعية في القراءة؟ وما هو حضور التراث المقروء؟ هل هو حضور " هناك " في زمان انقطع؟ أم أنه حضور " هنا " من زمان ممتد؟
عصفور يرى أن قراءة التراث النقدي هي عبارة لافتة للانتباه من حيث دلالتها المزدوجة التي يمكن فهمها على مستويين أولهما المستوى النظري وثانيهما المستوى التطبيقي, وسواء كان الحديث عن القراءة بالدلالة الأولى " النظرية " أو بالثانية " التطبيقية " فإن معنى القراءة بوجه عام لا ينفصل عن التفسير ولا يبتعد كثيرًا عن التأويل, هنا أيضًا يؤكد عصفور أن العلاقة وثيقة بين الأبعاد النظرية والتطبيقية لقراءة التراث النقدي، فكلا المستويين من الأبعاد يتجاوب مع الآخر تجاوب التأثر والتأثير. كما يؤكد أن هناك إضافة كمية في قراءة التراث النقدي تتم عن طريق اكتشاف مخطوطات ضائعة أو نصوص مجهولة أو تراكم الطبعات المحققة والفهارس الموضوعية والمعاجم التاريخية والببليوجرافيات الواصفة.
وعي مزدوج:
قراءة التراث النقدي لا يمكن لها، كما يرى الكاتب، أن تتقدم إلا إذا انقسم وعي القاريء على نفسه في مرحلة من مراحل القراءة، وأصبح وعيًا مزدوجًا، ذاتًا وموضوعًا في آن، بحيث يتمكن هذا الوعي من تأمل نفسه في علاقته بمعطيات التراث المقروء وكيفية إدراكه لها وسيطرته عليها، فيكتمل فعل التحقق الذي تكتمل به سلامة القراءة في يقين القاريء، ويدرك أن جهاز قراءته قد كشف في النص الذي قرأه عن معنى ذي دلالة في السياق التاريخي لهذا النص وأفقه الزمني الخاص، وذي دلالة موازية في السياق التاريخي لهذا القاريء وأفقه الزمني الخاص في آن, هنا يرى عصفور كذلك أن كل تغير يصيب النقد الأدبي بوجه عام أو خاص ينعكس على قراءة التراث النقدي، الانعكاس الذي يتأثر معه الجزء المتفاعل بالكل المتحد، في الحركة الزمنية المتعاقبة أو الآنية للتأثر والتأثير.
هنا يذكر الكاتب أن الهدف من قراءة التراث، في النمط الجديد، لم يعد استعادة الماضي بكل ما يقترن به من قيم جمالية ومباديء أدبية، فقد أضحت هذه المباديء والقيم قرينة إطار مرجعي مرفوض، صار التمرد عليه قرين التحرر الفردي الذيؤ ينطلق من إطار مرجعي مضاد.هذا الإطار الجديد، على حد قول الكاتب، يعلو فيه الوجدان على الفكر، والخيال على العقل، والحدس على النظر، والروح على الجسد، والمثال على المادة، والفرد على الجماعة، والابتداع على الاتباع، والأصالة على التقليد، والطبع على الصنعة، والفن على العلم، والشعر على النثر، وتسقط فيه محاكاة العالم الخارجي ليعلو صوت التعبير عن العالم الداخلي للفرد " الفذ " الذي أصبح حضوره المطلق رمزًا للعصر بأكمله.
هنا أيضًا يصل الكاتب إلى القول بأن فعل قراءة التراث بوجه عام هو فعل واحد، لا ينفصم من حيث المنظور المنهجي، ولا يختلف في آلياته أو إجراءاته من حقل معرفي إلى حقل آخر من حقول التراث، فهو فعل متحد، متكرر الكيفية والتوظيف والأداء، في كل الحقول التراثية، ومن هنا فإن الإشكال المعرفي للقراء يظل إشكالاً واحدًا في قراءات متعددة متباينة بتعدد حقول التراث وتباينها، أدبية أو نقدية، فلسفية أو فكرية، اجتماعية أو علمية، ما ظلت علاقة الذات القارئة بموضوعها المقروء واحدة على مستوى الإدراك، بغض النظر عن تبدل حقل الموضوع، وما ظل حال وجود المقروء واحدًا على المستوى الوجودي الذي يتضافر مع المستوى المعرفي ويتفاعل معه.
كذلك يقول عصفور هنا إنه بقدر ما تشكل كل قراءة جديدة للتراث إنتاجًا لمعرفة جديدة، فإنها تشكل جانبًا من الحياة الفكرية للمجتمع القاريء، من حيث علاقات إنتاج المعرفة وأدواتها، ومن ثم تشكل جانبًا من الحياة الاجتماعية لهذا المجتمع، خاصة في ما تنطوي عليه كل قراءة من أمل ضمني، أو رغبة في تغيير هذه الحياة بما تحققه هذه القراءات، أو تحلم أن تحققه، من تقدم يتناسب وأهميتها وفاعلية الغاية التي تحرك السؤال المضمن: لماذا نقرأ التراث؟
الماضي سند وسلاح:
أيضًا يرى عصفور أن أحد جوانب الخصوصية في الثقافة العربية المعاصرة، من حيث علاقتها بالتراث على الأقل، يتمثل تحديدًا في الصيغة التي تجعل المقروء بعض القاريء، والموضوع بعض الذات, ومما يراه الكاتب أننا لسنا الأمة الوحيدة التي لها تراث طويل وعريق، فهناك الصين واليابان والهند، وغيرها من الأمم التي لتراثها محور ديني مثل تراثنا، لكن لعلنا الأمة الوحيدة التي تلتبس علاقتها بتراثها التباس التضاد العاطفي الذي يجعل الفرد مهووسًا بحب الشيء وكرهه في آن؛ وهذا الوضع، يرى الكاتب، يفرض خصوصيته في التكييف المعرفي لحدث القراءة، أو التوصيف الأصولي لإنتاج معرفة جديدة بتراثنا نحن، وليس تراث غيرنا، ولا يكفي لمواجهة هذه الخصوصية أن نتحدث عن انفصال يقابل اتصالاً، أو نتحدث عن جعل المقروء معاصرًا لنفسه بفصله عنا، ومعاصرًا لنا بوصله بنا، فالمقروء ليس زهر نرد ننقله ما بين لاعبين متقابلين، وإنما هو ماضينا الذي هو بعض حاضرنا.
هنا يُورد عصفور مقولة لمحمود أمين العالم يقول فيها: "إن الموقف من التراث ليس موقفًا من الماضي، وإنما هو موقف من الحاضر، فبحسب موقفي من الحاضر يكون موقفي من الماضي، وليس العكس كما يقال أو كما يُظن, إن الماضي هو سندي وسلاحي لمشروعية حاضري، وبحسب معرفتي بحاضري وموقفي من حاضري تكون معرفتي وموقفي من الماضي". هنا يؤكد العالم أن التراث لا يوجد في ذاته وإنما في قراءتنا له وموقفنا منه وتوظيفنا له.
أما حسن حنفي فيرى أن التراث مجموعة التفاسير التي يعطيها كل جيل بناء على متطلباته الخاصة, هنا يؤكد عصفور أيضًا أن تراثنا، أو تراث الآخر، ليس جوهرًا نقليًّا، اكتمل دفعة واحدة، أو دفعات، في الماضي، فلم يبقَ سوى تكراره أو إلغائه، وإنما هو بعض خبرة النوع الإنساني المرتبطة بشروطها التاريخية، والتي تقبل احتمالات الزيادة والتطور، أو التغير والتحول في الوقت نفسه, .هنا أيضًا يستعير عصفور من الكندي الفيلسوف البصري قوله أن نبدأ مما قاله القدماء السابقون علينا، لا على سبيل استعادته أو تكراره بوصفه الأكمل والأنقى، بل على سبيل تتميم ما لم يقولوا فيه قولاً تامًّا، على مجرى عادة اللسان وسنة الزمان.