القاهرة 26 فبراير 2019 الساعة 02:20 م
كتب: د.محمد السيد إسماعيل
تتكون المجموعة القصصية " العروس ذات اللحية " للكاتب جمال ثابت – والصادرة عن دار ابن رشد - من عشر قصص وتحمل المجموعة عنوان آخر قصة فيها، وهو عنوان لافت وجاذب لفضول القارئ لفك ذلك التناقض ولمعرفة كيف تصبح " العروس " " ذات لحية "! وهل هذا على سبيل الحقيقة أم المجاز؟ وكما يقال – دائما – إن العنوان عتبة أولى لدخول عالم النص؛ ولهذا فإن البدء بالقصة الأخيرة سوف يجيب على الكثير من الأسئلة, والحق أنها أفضل قصص المجموعة وقد أحسن الكاتب فى اختيار عنوانها لكى يكون عنوان المجموعة.
ومن خلال هذه القصة – وما سبقها – نستطيع أن نقول أن الثنائية الحاكمة للمجموعة هى ثنائية الإنسان والمكان, ومن المعروف أن المكان الفنى ليس مجرد مسرح للأحداث أو خلفية لها بل هو عنصر فاعل فى العمل الأدبى, منذ أن تحدث يورى لوتمان عن أهمية المكان فى بنية العمل السردى تحديدا, والمكان الذى اختاره السارد هو الأقصر وبالتحديد القرنة حيث جذور الوالد وعائلته الكبيرة التى يتبادل معها الزيارة حيث يستقبلهم فى القاهرة – مكان إقامته – ويذهب إليهم فى أقاصى الصعيد, ومن خلال هذين المكانين بدأ وعى السارد الابن يتحرك فى حركة بندولية بين القاهرة والقرنة, ليس على مستوى جغرافية المكان فحسب بل على مستوى العادات والتقاليد, فالمكان مجاز مرسل للدلالة على صاحبه, فإذا ما توقفنا عند " العروس ذات اللحية " سنجد ربطا بين حركة الطبيعة فى القرنة بوصفها مكان الحدث السردى وحركة الشخصية التى تمثل دور البطولة, وتتبدى هذه العلاقة بين الطبيعة والإنسان من السطر الأول : " تماما كما ينسل شعاع الشمس ويجلى معه ظلمة ليلة الأمس ويكون عونا للنهار فى رحلة تأنقه اليومية ...يستيقظ هو ويبدأ رحلة تأنقه الخاصة ".
ولكى يوضح السارد ما سوف يقع من تحول فى حياة هذه الشخصية فإنه يهتم بوصف أناقتها وجمالها وصفاتها وثقافتها حتى أصبح شخصية جاذبة لنساء الغرب السائحات " فإلى جانب الوسامة الظاهرة كان يتمتع بذكاء اجتماعى غاية فى الحدة ولسان يتحدث بلباقة الانجليزية والفرنسية " كل هذا جعل منه شخصية مختلفة مركبة يندر وجودها فى " جبل عشق البساطة والوضوح ", ولاشك أن هذا التركيب جاءه فى من معرفته بالآخر الغربى وانفتاحه على ثقافته ومهاراته فقد تعلم – مثلا – " لعبة التنس التى علمها له صديقه الفرنسى بيير ", لكن شهواته وحيله مع " النساء " تعدت الخطوط الحمراء التى تسمح بها ثقافة الجبل, هنا يفرض المكان تقاليده على الإنسان؛ فيبدأ التفكير فى زواجه من فتاة أسوانية جميلة, وتقع المفارقة التى لم يعرف أحد سرها فى أن هذا الشاب الذى لقب ب" زير النساء " قد جعل من سيارته مكان نومه وساءت حالته وأصبح " رث الثياب ", إلى أن أفضى بسره لابن عمه الذى يصغره, وهو أنه عندما يقترب من عروسه يجد لها لحية سوداء!
وبعد انكشاف السر يعرف الجميع أنه عمل من أعمال السحر قام به عاشق أسوانى لها, ويتم الاتفاق على طلاقها مقابل فك هذا العمل والسحر.
أهم ما يميز هذا المكان - ولا أحد ينكر فاعليته وتأثيره وهو مكان يجمع بين الماضى والحاضر- وينفتح على الآخر الغربى فالماضى العريق يحضر من خلال البعد الفرعونى بآثاره ومعابده ومومياواته, يقول السارد فى قصة " ناس البلد " :" شىء آخر أذهلنى عن التصاق الماضى بالحاضر والميت بالحى هو أن كل بيوت القرية مبنية على تلال كانت مقابر فراعنة فى الماضى " لقد تمسك أصحاب المكان بالعيش " فوق " الجبل رغم وعورة المكان وعدم وصول المياه إليهم, وتركوا القرية النموذجية التى بناها حسن فتحى خربة فارغة, ولاشك أن هذا ينفى وهم الانقطاع الحضارى فالهوية المصرية ذات طبقات تبدأ من العصر الفرعونى مرورا بالحقبة الرومانية والقبطية والإسلامية وصولا إلى العصر الحديث, وانفتاحها على حضارة البحر الأبيض وتدعيمها للبعد الإفريقى, ويصف السارد " أهل الجبل " وصفا إجماليا بوصفهم شخصية اعتبارية واحدة فهم : "بسطاء إلى أقصى الحدود وعيونهم تتقد حدة ولصوتهم رنين خاص ولهجة حاسمة لكن قلوبهم حنونة ودموعهم قريبة واعترافهم بأخطائهم مصدر عزة فى ذاته".
ولا يفوت السارد أن يشير إلى قوة شخصية المرأة الصعيدية, حتى أن بنات عمه قمن باحتضانه أمام الجميع على اعتبار أنه لا فرق بين الرجل والمرأة, والحق أن المكان نفسه له جلاله الروحى بانفتاحه على السماء بنجومها؛ ومن هنا نستطيع تفسير قول السارد لقد " بدا كأن الجبل قد اشترط على البيوت شرطا لبقائه وشعرت أن الجبل سيموت لو نزل أهله عنه وغادروه ".. إننا هنا أمام أنسنة للطبيعة فهى طبيعة حية تشعر وتحس.
والسحر الذى أِشرت إليه له امتداده حتى منذ العصر الفرعونى حيث صنع الفراعنة " الرصد " وهو سحر من نوع خاص لإخفاء كنوزهم عن العيون, وعلى الرغم من توصل أهل الجبل لطريقة فك هذا الرصد فقد وقعت حوادث موت كثيرة ودفن بعض الرجال أحياء وهم يستخرجون ما وصلوا إليه من كنوز.
ويغلب على المجموعة ما يمكن أن نسميه بالأحداث الطقسية؛ مثل طقس الطهور الذى يحرص الجميع على أن يكون متزامنا مع طقس الأفراح, وهناك طقوس يمكن وصفها بالطقوس العلاجية؛ مثل طقس الغطس فى مياه المعبد ويستخدم لعلاج التأخر فى الحمل وتقوم به مجموعة من النسوة مع المرأة التى تأخر حملها دون علم أحد .
والمجموعة – إجمالا – مسرودة من خلال وعى صبى مستخدما الفصحى المعاصرة, لكنه يستخدم اللهجة الصعيدية حين يدخل صوت الشخصية التى يتحدث عنها داخل السرد, وهناك مايسمى بالسرد الفانتازى حين يتحدث السارد عن أبيه الذى بدا " كأنه حارس على الغرفة تحولت قدماه إلى جناحين كبيرين تماما كأجنحة حراس المقابر الفرعونية والتى كنا نشاهدها فى زياراتنا للبلد ", كما يلجأ السارد إلى الأسلوب الساخر أحيانا .
والقصة عموما لابد أن تنبنى على حبكة درامية وعقدة تقوم على الصراع, كما تحتاج إلى التكثيف واصطياد المشاهد الدالة, لكن ما ألاحظه على بعض قصص هذه المجموعة أنها أقرب إلى المشاهدات والتسجيل مما يقربها من أدب الرحلة وهو ما يفسر غواية الحكى والاستطراد أكثر مما ينبغى.