القاهرة 08 يناير 2019 الساعة 10:52 ص
كتبت: د. هـنـاء زيــادة
تمنح الطاقة للجسد، وتُحفّز العواطف للعمل، وتُحرّض الفكر على البحث، إنها القهوة، بجمال رائحتها وحلاوة طعمها، مشروبٌ من أصل حبشي عربي نابت من شجرة نفّاذة بأنواعها المختلفة، ومصنوع من بذور محمصة، لتخرج منها النكهات والروائح المتباينة، ورغم بلد المنشأ إلا أن القهوة الآن تأتي من بلدان عديدة في هذا العالم، ليصبح المناخ الاستوائي أهم ما يُقدّم لزرعها، ويتطور بالتالي إلى ما يسمى باقتصاد البُن العالمي، لكن ما هو تاريخ القهوة؟
القهوة هى الشراب المغلي واللبن المحض، وقد ذهبت بعض القواميس لتفسر القهوة بالخِصْب، وفي لغة اليوم تأخذ معنى اللقاء، بوصفها مقهى ومحفلاً للتلاقي، ليتطور إلى مناخ يومي وضروري، وعند البعض طقس شرب ومزاج لا يمكن الاستغناء عنه. حيث أصبحت حاضرة في كل المناسبات الاجتماعية والتعليمية والسياسية والاقتصادية، حضوراً قوياً وبكل ألوانها الفوّاحة، فالمتفق عليه عالمياً أنها من جهة محفّزة للعمل والقرارات والدراسات، ومن جهة أخرى مُؤثّرة في العقل البشري، فلم يكن ما يصدها، لتأخذ مزارع البُن في التوسع يوماً بعد يوم بعد أن بَنَتْ تلك البذور لها مكانتها اللائقة في أسواق التصدير للتجارة الدولية. والبُن في أصله نبتة مزروعة، ثمة أسطورة حول اكتشاف القهوة تقول إن راعياً للغنم جعل رعيه تستهلك ثماراً في مكان ما وهو لا يعلم أنها ثمار بُن القهوة، ليكتسب المرعى حيوية كاملة، وهذا ما أدى إلى فضول الراعي لاكتشاف ثمار الشجرة وبالتالي اكتشف القهوة. فيما تتحدث الموسوعة الفرنسية منشأ القهوة لنجد أنها نشأت أولاً في الحبشة، (أي أثيوبيا)، ليصبح هذا البلد أصل القهوة وتاريخها، وذهب باحثون آخرون بتوثيق تلك الأشجار بأنها من جنس القهوة وأنها من عائلة عربية، أو كما يطلقون عليها «أرابيكا كوفي» وهي من أقدم الأشجار المزروعة، وقد أخذت القهوة بالانتشار من أثيوبيا منذ القرن 15، إلى الإمبراطورية العثمانية ليعتمدها الأتراك، ومن ثم تدخل عبر تجارة البحر الأبيض المتوسط إلى مدينة البندقية في إيطاليا عام 1610، لتعتمدها بعد ذلك بريطانيا باسم كوفي، ثم دخلت القهوة إلى فرنسا، واعتُمِدت تحت مسمى «كافيه» بعد أن خرجت بتصريح رسمي من حكومتها، وبعد الفحص في مختبراتها ووصف شجرة المنتج ببذورها ومزارعها.
هناك معلومات تقول أنه كان يتم نقل القهوة من ميناء المخا اليمنية ومنذ 4 آلاف عام، حيث نمت للمرة الأولى في اليمن، لتصل إلى موانئ البحر الأحمر القديمة، حيث ميناء السويس وجدة وغيرها بعد تحميلها على السفن. لتأتي بعدها الأنواع الأخرى من ثمرة قهوة حمراء وأرجوانية وصفراء ليصفها البعض بكرز القهوة، وتبدو الحبّة مغلقة في هيكل شبه جامد وشفاف، حتى حين يتم تنظيفها تظل حبوب البن خضراء محاطة ببشرة فضية ملتصقة بها لتتطابق مع البذرة والتي يمكن طحنها، أصل الضيافة في البلاد العربية هى القهوة ، حيث تقدم في فناجين دائرية صغيرة مع تمر أو حلوى، بينما كل ما يحدث هذه الأيام في الضيافات العائلية صباحاً أو عصراً من مأكولات وأصناف نعرفها ولا نعرفها فهي دخيلة على العادات وتراث الاستقبال الراسخ في ذهن الأوائل، ليتجاوز البعض الأعراف بغية الوصول إلى مفهوم الكرم، محملاً معنىً آخر نستطيع أن نقول عنه حمولة ثقل التبدل والتغير.
سجل العام 1675 شرب القهوة للمرة الأولى في بلجيكا وتحديداً قرب قلعة «فيرير» بحضور لويس الرابع عشر، حيث قدّم له دبلوماسي تركي مشروب القهوة بمناسبة معاهدة اتفاقية «فيرير» ليطلق عليها البعض «اتفاقية القهوة»، ومن أشهر شاربيها كانوا الأدباء ومشاهير الفن والسياسة، على سبيل الذكر نجد المفكر والكاتب الفرنسي فولتير الذي عاش في القرن 18، أي في عصر التنوير وانتشار القهوة، تجاوز استهلاكه ما يصل إلى 12 فنجاناً كبيراً من القهوة يومياً، وأخذت الكمية تزداد حتى مات بالقهوة حسب تقرير طبيبه الذي كتب أنه قد توفي بالكافيين، ففي سنواته الأخيرة زادت كمية شربه إلى 54 فنجاناً يومياً، مشتهراً بقوله (لا شيء يتم دون قهوة) خاصة بعد تحذير أصدقائه من الكميات غير المعقولة التي يتناولها، لخطورتها على صحته، ومع ذلك لم يبال بأقوالهم وعاش حتى بلغ من العمر 84 عاماً. أيضا كان بيتهوفن من عشاقها، حيث كان يشرب يومياً ما يعادل 60 حبة من القهوة في كل كأس، خاصة أثناء إبداعه موسيقاه ووضع اللحن، وكذلك الفيلسوف الدنماركي كيركيغارد الذي اشتهر بطريقته غير المعتادة لصناعة قهوته، فكما أتى في مذكراته أنه كان يملأ قهوته بالكثير من السكر، ويستهلك يومياً حوالي 50 كأساً. أما يوهان باخ، فكان عنواناً للقهوة بعد أن وصل الذروة في استهلاكها، في حين أن الرئيس الــ 26 للولايات المتحدة ، فرانكلين روزفلت، كان يشرب 4 ليترات من القهوة في اليوم، وهي كمية أقرب للخيال، فكما ذكر ابنه في مذكراته "الأمر كان أشبه بحوض استحمام".
بمرور الوقت ذهب الإنسان إلى تهجين القهوة بتلقيحها فيسهل عليه الإنتاج الجيني الجديد، ويمهد لإخراج هذا المشروب الغني بالكافيين بطعم مختلف وأحياناً نادر، وهذا ما فعلته هولندا، فالتعديل الوراثي أصبح من أهم التجارب العالمية الجديدة خاصة فيما يتعلق بالحقول والزراعة، ولنبات البن ظهرت لها فطريات تسمى «صدأ القهوة»، وهى طفيليات قاتلة تهاجم أوراق الثمرة لتمنحها لوناً مختلفاً، وهذا النوع من الطفيليات الخبيثة ذات التأثير البطيء والذي لا تستطيع الثمرة أن تقاومه. لكن بأي حال فإن القهوة كانت وستظل سيدة المشروبات الدافئة التي يتناولها الإنسان صيفا كان أو شتاءاً.