القاهرة 18 ديسمبر 2018 الساعة 11:35 ص
كتبت : د.فايزة حلمــى - مستشار نفسى وتربوى
استمعى لصرخات أبنائك:
ماذا إذا أعطينا الفرصة لبعضٍ من أطفالِنا, لأن يعبـّروا عن مشاعرهم بصدق, أو على أصح تعبير " الفرصة لأن يصرخوا بما لم تتح لهم الظروف أن يبوحوا به" خاصة بعد أن مر عليهم الزمن, ومضت الحياة بهم فهل مضوا معها ؟!.
إن المعاملة المفرطة فى القسوة أو التدليل, لها آثارها السلبية على بناء شخصية غير سوية, ليس لها القدرة على التعامل المتوازن مع الواقع المـُعاش, مع إنبات مشاعر غير طبيعية تجاه الآباء والمحيطين والأحداث والمستقبل, وتظل جذور هذه النبتة التى قد يـُستهان بها, تتشعب متخللة مسام الوجدان, والفكر, حتى تتحول لشبكة متشعبة, ويظهر ذلك فى الرسائل التى حاول أصحابها إرسالها إلى ذويهم, سواء آبائهم أو أمهاتهم , الذين يكرهونهم, أو الذين يحبونهم, حتى الذين يحبونهم؟! نعم لأن الحب الزائد عن الحد يعرقل مسيرة صاحبه الذى لا يستطع المضى فى الحياة إلّا بصحبة مانحة هذا الحب, حتى أنه يعيش باهت الملامح , عاجز عن المضى فى الحياة مستقلا, سواء فى وجود أو عدم وجود من يحبه.
لذا انتبهوا أيها الآباء فقد تكونون أحد هؤلاء الآباء أو الأمهات المتسببين في عذابات أبنائكم.
أرواحهم, فظلت حبيسة مشاعرهم السلبية, لأنها بداية جذور التفكير السلبى, التى تلقى بظلالها على عقل الإنسان فتسبب له غيامات فكرية, تحجب الواقع لتلونه بغير ألوانه الحقيقية.
فانصتوا جيدا لهذه الأقوال الآنية والآتيـــــــــــــــــــــــة من الماضى, إنها مجرد نماذج, مجرد نقطة من محيط معاناة موجودة حولكم, وهذه أول رسالة مِن إبنة لأمها.
اسمعينى يا أمي :
ظلالك ممتدة داخل عقلى جذورا متشعبة دمرت حياتى فدمـّرت حياة طفلى, حتى أننى كنت أعامل إبنى الأول بجفاف غريب على عاطفة الأمومة, كنت أتعجب أنا ومن حولى لأنه إبنى الوحيد, وكنت أبرر ذلك بأننى لا أحب الأطفال بصفة عامة فانعكس ذلك على معاملتى لإبنى..التى كانت خالية من المشاعر , بل مجرد روتين يومى بلا روح ولا حب ولا حنان وأظنه كان يشعر بذلك فبادلنى إنطواءً بإنطواء.
وجاءت طفلتى الثانية, وكانت المفاجأة لى ولمن حولى, كأن طوفان أو بركان من المشاعر الدافئة تدفق داخلى فأعاد لى نبض الإحساس والروح, فوجدتنى أهتم بها وبكل دقائق حياتها بسكناتها وحركاتها, بحب وحنان أتعجبه أنا نفسى من نفسى, وجدتنى أريد أن أحتفظ بها كثيرا بين يدى, وكأنى أحميها لا إراديا من أذى وهمى آت من مجهول, أخاف عليها من أقل مرض أو ألم ولم ألاحظ مدى تفرقتى فى المعاملة بينها وبين أخيها, حتى بعد أن مرت سنوات, كنت خلالها دوما الأحرص عليها, فى أية منازعات بينهما, ودوما المؤنّبة له, دون حتى محاولة معرفة من المخطئ ولا سبب النزاع, وأبرر لنفسى وله أنها الأصغر.
ولم لم ألتفت لنظرات إبنى, ولا لوقفاته الطويلة أمامى, وكأنه يراقبنى ويعاتبنى, لم ألتفت لسكنات الدموع فى مآقيه متحجرة لا تريد نزولا, كصوته المعترض الذى لا يريد تعبيرا, وكأنه كان يردد ما جدوى الاعتراض؟
لم ألتفت ولم أفق إلا يوما فى أحد هذه المواقف التى اعتدت أن آخذ فيها جانب ابنتى, لم أفق إلّا على صراخ إبنى, الذى لم أعتد له صوتا وجدته يصيح بى "حرام عليك, كفاية كده أنا بكرهك بكرهك بكرهك ", ودخل حجرته وأغلق بابها بعنف وأنا مكاني تتردد حولى كلماته أصداءً فى المكان, ولكن ! ليس بصوته بل بصوتى, وبنفس الكلمات ووجدتنى أحاول ألا أسمع, بوضع يدى على أذنى ولكن هيهات ..
لقد كان الصوت صادر من داخلى إلى داخلى, فكنت حتماً سامعته, أتعرفى يا أمى! إنه صوتى الداخلى الذى كثيراً ما كان يتردد لكِ بغير صوت من الخوف وعدم الجرأة وبنفس الكلمات أكرهك أكرهك.
لقد أدركت خطورة ما أنا فيه من المدة الطويلة التى جلست فيها على الأرض, لأن قدماى لم تحملانى من تزاحم المشاعر والأفكار, ولأننى فى حاجة لأن أفهم نفسى لم أتردد فى الذهاب لمن يجعلنى أعرف, وعرفت لماذا أكرر أنا أخطائك فى تربيتنا أنا وأخى, حين كنت تميزين عليّ إبنك أتذكر أننى لم أدعه أبداً أخى, تخيلى أنك كنت السبب فى كراهيتى له, والتى جعلتنى لا أتحاور معه لسنين طوال, بسبب إيثارك له فى كل شىء, كنت أرانى مظلومة دائما منك, لأنك غير مهتمة بمعرفة مدى احتياجى لك لم تكونى لى أماً يا أمى!
عرفت الآن لماذا كانت مشاعرى تجاه إبنى جافة باهته, عرفت الآن أننى لم أكن أماً لإبنى لأننى كنت أراه إبنك الذى فضلتيه عليَّ , كنت أعتقد وهماً أنه أخذ من الحب والحنان ما يكفيه منك! الأكثر أننى عرفت سر لهفتى وحبى وحنانى غير الطبيعى لابنتى, لقد كنت دون وعى منى أراها أنا, نعم أنا التى حرمتينى منك فكأنى أشبع ظمأى بإروائها, وكأنى أحمينى وأنصفنى من ظلمك, حين أقف دائما فى صفها ضد أخيها, دون حتى أن أتبين الحق فى أى موقف بينهما.
يــــــا لهول مـــــا أدركت الآن إننى ؟! صـــــــورة مكررة منك لكن معكوسة, الغريب فى الأمر, أن هناك احتمال ظهر فجأة الآن فى هذا السؤال:" ألا يمكن أن تكون معاملتك لنا سببها أيضا ما تعرضت له أنت شخصيا من معاملة أحد والديك؟! قد يكون ذلك حقيقة ولكن لم يكن بيننا يوماً حوار يوضح طبيعة معاملة جدتى لكم , وإن كنت أراها قاسية عليكم أنتم أبنائها.
تكتمل أمامى الآن معالم الصورة إنها كدائرة خبيثة تتكرر عبر الأجيال, ومن يدرى لو لم أتوقف لأفهم وأدرك وأسارع بتصليح خطئي فى حق إبنى الذى أحاول تعويضه عن العشر سنين العجاف, وأعرف أنه لن يسامحنى بسهولة.. ولن يرجع لى ويصدق مشاعرى ويستجيب لحنانى بسهولة, إننى أحاول أن أقترب تدريجيا من عالمه الذى لم أهتم بارتياده قبلا, يصعب على عقلى تصديق ما فعلته لإبنى من هشاشة نفسية, وعدم قدرة على اتخاذ أى قرار, وعدم ثقة بالنفس, لذا فإننى الآن أبذل المستحيل من أجل استعادة صلابته النفسية, وحمدا لله أراه مستجيب, استجابة المتعطش لهذه القطرات الوجدانية ثم أراه يبعدنى ارتياباً من عدم التصديق, وخوفا من عدم الاستمرار, ولكنى وسط هذه الدوامة التى تكاد تفقدنى توازنى, متفهمة لمشاعره المشوشة, وأتمنى أن يســــــــــامحنى.
ولم أنسَ وسط هذا بالطبع إبنتى, التى مازالت تحصل على إهتمامها منى, ولكن بمكانتها كإبنتى, وليست أنا, وبقدر ما أتمنى أن يتفهم إبنى ويسامحنى, فمن هذا المنطلق فقط قد أحاول أن أسامحك ولماذا (قد)؟! لأنك لم تعتذرى لى عن معاملتك لى, مثلما فعلت أنا مع إبنى؟! نعم أحتاج منك وبشدة لأن تعتذرى لى وتطلبى منى أن أسامحك, أم أنك تنتظرى منى أن أفهمك من تلقاء نفسى حين فهمت نفسى؟! ربما.
سأحاول يـــــا أمى, سأحاول حتى يســـامحنى إبنـــــــــــــى, وحتى أسامح نفســــــــــــى.